-A +A
د. طلال صالح بنان
الضغط يتواصل على الخرطوم لقبول نشر قوات دولية في إقليم دارفور من أجل وضع حدٍ للاضطرابات التي تسود الإقليم منذ أكثر من ثلاث سنوات... الأمر الذي ما فتئت الحكومة السودانية تعارضه، لأسباب سيادية. الضغط لم يعد يأتي من الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي والأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، ومن بينهم من يُعدون أصدقاء لهم مصالح استراتيجية واقتصادية في السودان مثل روسيا والصين، فحسب... بل أيضاً من بعض جيران السودان العرب.. وكذا من الاتحاد الأفريقي..!؟
في مدينة سرت الليبية، عُقِد مؤتمر دولي يمثل كل تلك الأطراف الدولية الإقليمية والدولية الفاعلة لإقناع الحكومة السودانية برفع ما بقي من تحفظاتها عن نشر قوات دولية في الإقليم يصل مجموعها إلى عشرين ألف عنصر يمتلكون الأدوات اللازمة والإرادة الضرورية للسيطرة على الوضع في الإقليم، بعيداً عن أي ممانعة من قِبَل حكومة الخرطوم، بما قد يقود في نهاية الأمر إلى تقرير مصير الإقليم تحت وطأة وجود تلك القوات الدولية.

السودان كدولة ذات سيادة من حقها أن تقلق تجاه هذا “الحماس” الدولي للتدخل في ما تراه شأنا داخليا لابد أن يترك التعامل معه للحكومة المركزية في الخرطوم. وجود قوات دولية في الإقليم، قد يتطور دورها إلى ما هو أبعد من مجرد التعامل مع مسألة إنسانية، إلى التعرض لسلامة وحدة أراضي السودان وربما تحديد مصير إقليم من أراضي السودان بعيداً عن كيان الدولة الإقليمي ستكون له أبعاد سياسية وأمنية خطيرة على مصير السودان كدولة. جدل سياسي وقانوني لحكومة الخرطوم في تعاملها مع الأزمة، إلى حدٍ كبير مفهوم ومنطقي، يعكس سلوك أي دولة يمكن أن تواجه نفس المشكلة.
ولكن مهما بلغت مشروعية الجدل السياسي والأمني والدستوري والقانوني لحكومة الخرطوم في التعامل مع الأزمة بمستوى خطورتها على كيان الدولة وسلامة أراضيها، إلا أن الضغط الإقليمي والدولي لإدارة الأزمة بمستويات من التعاطي معها بعيداً عن الجدل التقليدي لمنطق السيادة، ليعكس طبيعة النظام الدولي الحالي وموازين القوى الفاعلة فيه، يحدد إلى درجة كبيرة إمكانيات المناورة لدى الحكومة السودانية، بالإضافة إلى ضعف إمكاناتها وقلة مواردها الذاتية في مواجهة ضغط دولي وإقليمي، من هذا النوع الذي تواجهه يحاول أن يستخدم مؤسسات وقيم النظامين الإقليمي والدولي للتعاطي مع مشكلة داخلية.
كذلك فإن هناك سوابق للحكومة السودانية في السماح للمتغيرين الإقليمي والدولي في تحديد مصير الجنوب، بعد فشل التعاطي المباشر لحكومة الخرطوم في التعامل معه، بوسائل الدولة القومية التقليدية، سواء السياسية أو الأمنية. وجود القوات الدولية في جنوب السودان، بموجب اتفاق نفاشا 30 / 12 / 2004 يذهب إلى أبعد من مسألة ضمان اتفاق السلام لتقسيم الثروة والسلطة بين الخرطوم وجوبا، بعد ما يقرب من عقدين من الحرب الأهلية في الإقليم، إلى تحديد مصير الإقليم نفسه بعد فترة انتقالية. ولعلَ اتفاق السلام هذا في الجنوب، الذي تطور بإرادة إقليمية ودولية فاعلة، هو الذي حفَزَ أقاليم أخرى في السودان، مثل دارفور، لتطالب بدورها بعلاقة غير تقليدية مع حكومة الخرطوم المركزية، تعكس الطبيعة الجغرافية والسكانية لأقاليم السودان المختلفة، وكذا الأهواء والمصالح الإقليمية والدولية، في تشجيع مثل هذه الحركات الانفصالية.
مشكلة التعاطي الدولي مع أزمة دارفور، لا تختلف كثيراً عن “سيناريوهات” التعاطي مع أزمة الجنوب السابقة. هناك استغلال واضح للبعد الإنساني للأزمة، لأهداف ودوافع لا يمكن وصفها بأنها إنسانية. وهناك محاولة من الفعاليات الدولية المهمة الولايات المتحدة الأمريكية، بالذات، لتحقيق أهدافها من إدارة الأزمة في خدمة مصالحها القومية في إطارها الكوني، بأقل التكاليف السياسية والقانونية وحتى الأخلاقية الممكنة. وهناك، إلى حدٍ كبير انحسار ليس للبعد المحلي للأزمة، فحسب... ولكن أيضاً للبعد الإقليمي لها. تحقيق أهداف الولايات المتحدة من وراء إدارتها لأزمة دارفور الحالية وقبلها جنوب السودان، لا يشكل خطراً سياسياً وأمنياً، قد يهدد وحدة وسلامة أراضي السودان وربما مصير السودان كدولة، فحسب... ولكنه، على المستوى الإقليمي يهدد مصالح فعاليات إقليمية، خاصةً تلك العربية التي يُعدُ السودان ضمن مجالها الحيوي ومتطلبات أمنها القومي. في النهاية: إذا ما انتصر التعاطي الأمريكي مع الأزمة، فإن السودان لن يكون وحده الضحية، بل أعضاء الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي، وحتى مصالح قوىً دولية مهمة مثل: الصين وروسيا.مؤتمر سرت تكمن أهميته وخطورته، أيضاً: في إعطاء هذا البعد الإقليمي والدولي للأزمة قاعدة المشروعية الأممية والإقليمية اللازمة لخدمة مصالح القوى العظمى الرئيسية في النظام الدولي، في سعيها لفرض هيمنتها الكونية على النظام الدولي. مؤتمر سرت يعكس الحلقة الأخيرة في سلسلة التعاطي مع أزمة دارفور لسد منافذ التعاطي معها محلياًً وإقليمياً.