-A +A
طاهر الزهراني
دخلت محلا فكان الخصام على أشده مع زبون أتى من مكان بعيد، قام بشراء عرض من الشبكة ثم وجد العرض بخلاف ما هو عليه، تدخلت في الموضوع ووصلنا إلى اتفاق -على غير عادة العرب-.
كان معي كتابي كمضاد لأوقات الانتظار، الزبون الغاضب بعد أن هدأ، أخذ يبتسم، ويحاول تبديل الأجواء، وأخذ يحدثني عن المشاعر الجميلة التي كان يشعر بها في السابق عندما كان يقرأ كتابا، أو ديوان شعر، أخذنا نتحدث عن غسان كنفاني، ومحمود درويش، أحمد مطر، بعد الحديث شعرت أنه يحاول أن يبدل الصورة السابقة، وبدا يذكر أنه في النادر أن يغضب، بدأ يذكر كثيرا من المواقف التي تصور حسن تعامله مع الآخرين، في محاولة للترميم، وذكرت له أني لست متأثرا بالدراما الخليجية التي تجعل من البعض أشرارا محضين.

بعد أسبوع تكرر موقف قريب من هذا، كنت في إحدى الشركات أنتظر، كنت أقرأ (وراق الحب) لخليل صويلح، الموظف لم يكن مشغولا، فاقترب مني وطلب أن أخبره بمحتوى الكتاب، ثم أخذني في (فلاش باك) يحدثني فيه أنه كان يقرأ قبل سنوات، لكن ضغط الحياة والانشغال بما ينشغل به أغلب الناس هو ما صرفه عن القراءة، وكون أنه هو الوحيد الذي كان يقرأ في وسطه، جعله يعيش نوعا من الاغتراب، لذلك تخلى عن هذه الهواية الجميلة على حد تعبيره، ولو أنه استمر في القراءة لربما تغيرت كثير من أخلاقه وطباعه السيئة ولكان إنسانا أفضل!
أنا لا أدري من رسم هذه الصورة النمطية الكلاسيكية للقراء عند الناس، أم أن مجرد أن يمسك الإنسان كتابا في مكانا ما هو دليل على أنه شخص مثالي، ورائع، بينما الصورة في الغرب ليست كذلك، هناك كثير من الأشخاص الذين يرتكبون جرائم يصنفون قراء من الدرجة الأولى، بل السجون في الغرب ودول العالم المتحضر هي مكان حيوي للقراءة.
ربما يعود الأمر إلى أن القراءة هناك هو فعل الأغلبية، أو هو ممارسة يومية، كمشاهدة التلفاز تماما، بينما فعل القراءة عندنا يبقى في دائرة ضيقة جدا، أو هي نوع من الترف تحاول أن تكرسه بعض الأسر في أبنائها، لهذا عندما يرى البعض شخصا يقرأ يعزو هذا لثقافة عائلته، وشغفها بالثقافة والمعرفة، بينما الأغلبية لا يجد تسلية إلا في كرة القدم، وتكون الثقافة الطاغية والمتوارثة كروية بحتة، ويكون أغلب طموحات الشاب أن يكون لاعب كرة، لكن حتى في هذه نختلف فيها عن العالم المتحضر، ففي أوروبا نلمس بعض الوعي والشغف بالقراءة عند بعض نجوم كرة القدم، وهذا ليس مرده العائلة وإنما مرده إلى الضغط المعرفي العام الذي يترك أثره على كافة شرائح المجتمع، لكن حتى هذا لا يعني أن الخيرية للقراء فقط، بل هو إنسان لديه نزعات خير ونزعات شر، قد تجبره الظروف أن يقوم بجريمة، لكن لا يعني بالضرورة أن هناك ظلمة تسكنه، فربما يكون هناك ضوء.
بعد أن انتهيت من كتابة هذا المقال، شرعت في قراءة كتاب (متعة القراءة) لدانيال بناك - العنوان الأصلي لهذا الكتاب (كأنها رواية) وهي مصنفة كرواية مهجنة - ماذا يقول بناك حول هذا الأمر تحديدا: «فكرة أن القراءة تؤنسن الإنسان صحيحة في مجملها، حتى لو عانت بعض الأحيان بعض الاستثناءات المزعجة، فلا شك أننا نصبح أكثر إنسانية، لكن لنحذر أن نربطها بفكرة حتمية بأن شخصا لا يقرأ يعتبر وحشا محتملا أو غبيا لا يقارب، أو نحول القراءة إلى إلزام أخلاقي.. عندها سنصبح نحن الوحوش مهما كنا قراء كبارا، وما أكثر الوحوش من هذا النوع على امتداد العالم!».
ثم يختم بناك كتابه بقوله: «يقرأ الإنسان لأنه يعلم أنه وحيد، وهذه القراءة هي صحبته التي لا تحل معها أي صحبة أخرى، وهي لا تقدم أي تفسير قطعي لكنها تنسج شبكة متينة من التواطؤات بينه وبين الحياة، تواطؤات في منتهى الصغر والسرية تعبر عن سعادة العيش المتناقضة، وفي نفس الوقت تبين عبث الحياة المأساوي، بحيث أن هناك أسبابا غريبة تدفعنا للقراءة، كغرابة الأسباب التي تدفعنا للعيش».
أخيرا سعيك نحو القراءة، ببساطة هو سعيك نحو المعنى الأوسع والأعمق للأشياء في هذه الحياة، قد تكون طريقا للنبل لكن ليست بالضرورة.