-A +A
كتابة:أحمد الملا
مرة اقتسمت غرفة واحدة مع الشاعر محمد الثبيتي في رحلة إلى بغداد وكان العام 1985م، حينها «مستني نار الصالحين» وعرفت كيف علي أن أكون إنسانا، ثم كيف أخلع ذلك قبل الدخول إلى الشعر.. الثبيتي كان متربعا هناك، يصحو شاعرا ويغفو شاعرا.. كانت غرفتنا محط المهرجان في المربد، وبالطبع كان هو مصدر الجاذبية لسائر مريدي الفندق.. عرفته شاعرا قبلها حين جاء إلى الأحساء ليحيي أمسية شعرية ونقدية قائمة على نص واحد «التضاريس» ترافقه قراءة نقدية للدكتور سعيد السريحي. كنت من عصبة قليلة تتلمس خطو الحداثة وتترحل أينما وجدت منفذا صغيرا لتعلن عن نفسها، تتبعت أمسياته من الطائف إلى الباحة (تلك التي لم يتمكن من حضورها).
التقيت به بعدها في مدينته مكة، وكان يفيض بمطلع قصيدة «وأفقت من تعب القرى»، يدندنها وهو يقود سيارته ولا ندري إلى أين يتجه بنا الليل، الثبيتي شاعر ينحت بدأب قصيدته.
في الضفة المقابلة كنت طفلا يقف طويلا أمام رفوف الكتب، حتى تجرأت يوما وتناولتني بيديها. إشارة لا أدري متى انطلقت، لكني أتذكر مديرا للمكتبة العامة قريبا للعائلة، وبعد أن وبخني أول مرة، تغاضى في الثانية وأعارني ما أريد من كتب دون تدوين اسمي في سجلات الإعارة، حتى وشى بي لاحقا، كان الزمن عريضا، يتسع لكثير من الدروس واللعب بما فيها لعبة القراءة..

من الشعراء من يصطاد السمك في النهر وهو جالس في غرفته
منهم من يأتي بالنهر إلى غرفته
منهم من يغرف بيسر ومنهم من ينحت بمشقة...
أستطيع توصيف حالي؛ كذاهب في الحياة بيدين عاريتين
ولا يدري، من هو الصياد؟
من هي الطريدة؟..
........
كلما برعت في لعبة
تركتها جانبا
ومضيت إلى غيرها..
كنت طفلا يسبق إخوته في قراءة لوحات
الدكاكين
من المقعد الخلفي.
نزحت العائلة إلى حارة جديدة
وحملت لصبيانها لوح الشطرنج
ولما تورطوا.. نزحت عنها إلى أم كلثوم
بينما أوفر ما يفي لشراء شريط أغنية طويلة
أكون حفظت كلماتها في صدري
ولحنتها..
كان كتابها طروبا في غرفة الصبيان الصغيرة
وهييء لي مرة أني فقت القصبجي فاعتزلت اختراع الموسيقى
وبقيت وفي التسمع.
لعبت كرة القدم
وقبيل الاحتراف استقلت وانتقلت إلى طبخ
الليل لهواة يأتون من قرى مهملة
وكان الظلام شديدا فطردت بعصا عمياء
لم تتقصدني تماما.
........
زاولت أعمالا عديدة
ليست كلها مخلة بالشرف وأجدتها...
لعبت البيلوت
لعبت الفلاحة
لعبت على المسرح
ولعبت خلفه
أمام الشاشة ومارست ورقها..
لاعبت السياسة
والنساء
وأعمالا تناسيتها،
حتى
هجرت كل شيء
ولحقني الشعر يلهث
هربت منه.. وأدركتني عضته هرما
أهملته خوفا وريبة من أمري..
لهذا أكتبه
وسريعا أرميه من يدي بعلات لا أتداركها
نبت الشوك في أصابعي
خشيتي أن أجيد ما أفعل
ويهجرني إلى لعبة أخرى.
........
ما سبق ليس مجازا، لم أعتد أن ألتفت إلى الخلف بقصد الكتابة عن حياتي، فهي أمامي تتدحرج وتلاعبني في طريق غامض.
أرى الشعر في النص وليس القصيدة فقط، أرى كل ما هو حي ونابض في الحياة نصا، أحيانا يمتلك شعرية ظاهرة وأحيانا يخبئها، وبالأحرى أرى الشعر في العين الناظرة، حينا من الدهر تتدرب. أطرب للنصوص الشعبية مثلما أتلمس شعرية السينما، والنحت والتشكيل والقصة والرواية..... كل ما هو انتاج إبداعي مقصود... وأضيف تذوقي لما هو إنتاج غير مقصود بذاته للإبداع، فالشعر بنظرة ثانية يتكشف لي من صياغة إنسانية فاعلة في الحياة.. والعمل... في الكتاب مرة وخارجه بعدها، لكل ما هو مفكر به ويمكن تأمله وتخيل سواه، الحياة؛ فيلم عليك أن تشتغل عليه وفيه، عليك بمهارة المخرج، ودقة المونتاج، عفوية الممثل، ورشاقة كاتب السيناريو.... لن تحتاج إلى مصور محترف غيرك، وبوسعك أن تختار لفيلمك مؤثراته السمعية، كما باستطاعتك أن تصحح ألوانه وتضبط إضاءته وتحافظ على وتيرة الحس الدرامي حتى لا تمل وتسهو..... من هنا أجد الشعر متى توفر في أي نص سواء في الأشكال الإبداعية المقصودة بذاتها أوحتى خارجها... لهذا أجدني على علاقة مع مختلف الأشكال الشعرية وغيرها من الفنون..... وما الشكل إلا اختيار تعبيري، كثيرا ما كان تأثيرا خارجيا على المبدع، صاغته له بيئة مثل بيئتنا الأبوية.
وقبل هذا وبعده، السخرية.... خير وسيلة لتحمل مشقة الشعر، لتخفف من صرامة الحياة وجهامة العالم: اقبض عليها ووارها خلف ظهرك بدلا من الندم.
في بداية ليست مبكرة أي في عام 1983م بعد تخرجي في الجامعة تعرفت على الفنان التشكيلي محمد عمر بشارة وكان يعمل معي في الأحساء، لا يعلم أحد من زملائه أنه أحد أهم الرسامين، وفي صدفة ليست بريئة أبدا، كان جار بيت العائلة في الحي، بعد زيارات عديدة وحوارات خرجنا معا إلى حارة قديمة ووقفنا أمام مكب نفاية من الحديد مطلي بالأصفر والأوساخ تخط بعفنها الأخضر عليه وقال لي ما هذا؟، بعدها قال لي أغمض عينيك وتخيل... هذا ليس ما رأيت، أنت لست مسؤولا عما ترى إلا إذا صدقت... فلا تقبل سريعا بما اتفق المارة عليه... ماذا لو أنه تشكيل لوني فقط... الأخضر العميق وهو يحول اللون الأصفر إلى مساحات وتكوينات... أعد النظر دائما يا صديقي، حتى ترى.
منذ 35 سنة وأنا أربي بصبر؛ بصري.
أؤكد من هنا أني كنت - فترة من حياتي - لا أدعي أني شاعر، ليس من التواضع وإن كان يتلبس مظهره، بل كان على سبيل إبقاء منفذ موارب للتملص من حمله، حتى وقفت يوما مفردا بين النخيل، ولم أجد مواسيا سوى الكلمات، وصرخت بلا صوت أني شاعر حتى لو لم يعرف أحد.
في الأحساء تشكلت طفولتي بين قامات النخيل والينابيع المتدفقة، بين جبل القارة وتحت أقواس الطين المجصص والأساطير المزينة بالجن والرياحين، ربما لم تكن بقدر ما هي عليه الآن في خاطري، لكني كنت صغيرا يوما ما، وكل ما حولي شاهق وعال، الأمهات قادرات على حلب المعجزات الصغيرة، والآباء أكثر مما يجب، بينهم صاعد منارة بلا سلالم، أو مجنون يطوف الأزقة حاملا فوق رأسه ماكينة خياطة سوداء.
........
كنا صغارا متوحشين،
نطارد الفريسة وننهكها،
ننتقي الضعيف والموجوع،
طريدة مثلى.
نطيل رعبها،
وننخزها حين تدوخ،
نجرحها في الرقبة
ونتحلق حولها؛
تعتفر.
كنا سبعة صغار
متوحشين،
حتى سقط أحدنا
في قاع البئر،
سمعنا صرخته الغائرة،
فالتفتنا ولم نعرف أينا.
وها نحن ناقصين،
يتلفت كل واحد منا
ويشك أن قمرا بعين جاحظة،
يحدق في وحدته.
سبعتنا صرخنا
وكانت الصخرة التي سددنا بها فوهة البئر.
..........
كأني يوم خرجت من ريف الأحساء إلى مدينة في قلب الصحراء، والتفت للمرة الأخيرة، كانت علامات الشعر بسيطة وجلية، نضوج الثمرة وهي تقوس الغصن وتشده إلى الأرض. كان الشعر طازجا ليس في صوت انفلات الوتر، ولا ارتجاج الثمرة في الطين، بل ترنح الثمرة في الهواء الطويل، تلك المقدرة الغضة على تأملها بطيئا، والارتواء بها.
كانت الكلمات طرية الطعم والعبير، لم تجهدها المعرفة ولا استمرأتها حمولات الآخرين، وما ضيقت عليها بعد؛ ليس انطلاقا من نوستالجيا القدم أو الحنين لزمن القرية «التطهري» أبدا، بل لبراءة الدهشة الأولى في حديقة اللغة.
كلما زادت المعرفة ثقلت إشاراتها واحتجبت عني.
أمست الجملة متنبهة لفعلها، تتحاشى الأخطاء، وثقل القلب من دفع اليأس، ولم أعد مؤمنا بجدوى ما أرى.
ولدت في حضن الأمل وقطعت من العمر أكثره في علاجه. صار بيني وبين الطفل الذي كنته رمال ورمضاء لا تنتهي.
لم تكن رغبة في التخلي؛ لأفعل. بل هجرتني دهشة لم أحافظ عليها كما ينبغي. الآن أعبر في تيه شاسع ومتشابه أؤثثه بخيالات وأستدل بها. بالتأكيد أنني خسرت أكثر مما بقي لي، لهذا فإني أحاول القبض على الحياة بكلتا يدي ولا أنوي التفريط بها مرة أخرى.
الشعر أقربنا للخطأ، هو النافر والمتفرد عن القطيع وهو غيره. وربما العكس، أي ذلك الهش في الصخرة الحرة أو عرق اللهب في سواد الفحم. كل ما هناك أني أكتب في الحيرة ولا أطمئن، وأقرأ شعر الآخرين لأطفئ ظمئي.
تنبهت مبكرا على أن اللغة ليست مفتاحا فقط، بل الباب مفتوح أيضا.
الشعر هو انزياح ما، عن صوت الجماعة وانشغال بالخافت وابتعاد عن ضجيج اللافتات، هو استرداد أحلامي وكوابيسي الصغير والكبير منها، استعادة نفسي عبر تأمل تفاصيل صغيرة تلتقي مع العالم في كل لحظة.
مرت الشعرية العربية بفترة من إقصاء الكائن كونه فردا وصيرته نكرة في عداد الجمهور، علينا أوهاما وادعينا أن الحقيقة واحدة، أن الجمال بين وأهملنا الأخطاء. هكذا هزمنا، وعلى الشعر إعادة الاعتبار لذاتي، دونما عداوة بل بفائض الحب علني أشفى.
في الجامعة نهاية السبعينيات الميلادية، غادرت الأحساء إلى الرياض، دخلت كلية الآداب، وهي أول مغادرة لي من الأحساء.... بعدها بثلاثة عقود تقريبا، هجرتها لأعيش في مدن أخرى، في الرياض كتبت نصوصا موزونة... أكتب وأرسل إلى جريدة الجزيرة، نشرت في «واعدون»، ثم في المربد بجريدة اليوم وتلقفني الشعراء في اليمامة ومن ثم الجزيرة الثقافية فملحق الرياض الأدبي.. تخرجت 82 وعدت بصداقات شعرية مع التجربة الجديدة، عدت إلى الأحساء لأعمل في جامعتها، وما نشر من نصوص في صدر ملاحق الصحف الثقافية يدير الرؤوس، وفيها توطدت قراءتي في تجارب شعرية خارجة على الشكل برفقة الصديقين الشاعرين عبدالله السفر وإبراهيم الحسين، كنا نلتقي يوم أحد من مطلع كل شهر محملين بالكتب مداولة بيننا، كانت مجموعات وديع سعادة وصلاح فائق وكتب النفري وغيرهم تتوزع بيننا منسوخة في وقت واحد ومن ثم ترسل إلى أصدقاء خارج الأحساء، في 85 قلق أوقفني عن الكتابة، واستجبت له... وقاومت إغراء النشر كما عهدت وأبدلته بالتنشيط الثقافي، نظمت عددا من الأمسيات للشعراء محمد الثبيتي ومحمد عبيد الحربي وعبدالله الصيخان ومحمد جبر الحربي والنقاد سعيد السريحي والدكتور سعد البازعي والدكتور محمد صالح الشنطي، وفي القصة صالح الأشقر وسعد الدوسري... ولاحقت الأمسيات المعقودة خلسة في مطاردات ماراثونية إلى الباحة والطائف والدمام وجدة.. طاردت معارض الكتب في الشارقة والبحرين والقاهرة.... وانغلق علي شكل الكتابة.... كنت متطلعا إلى نص جديد، سبقنا إلى رشاقته محمد عبيد الحربي، بتجربة فذة في مجموعة الجوزاء أو قصيدته تحولات الماء التي أقمنا حولها ليالي عدة.... في صالة انتظار لمستشفى عام 87 استعدت أول محاولة أهديتها للشاعرة فوزية أبوخالد.... بعدها كتبت من جهة وقاومت مثقال الوزن الذي يتدحرج على الورق كلما أقدمت.... أردت شكلا امتلأت به روحي، واقتنعت بجدواه وهو قصيدة النثر، لكن آلة تشدني بميزانها تشتغل داخلي تلقائيا... فأهجر الورق... لم تنشر لي الصحف كما عهدتها، أصدقائي الشعراء المضيئون وشاغلو الساحة وحاملو الشعلة النبيلة أمام هجمة محافظي الصحوة.... نابزوني بالألقاب... أجملهم قال لي يوما... أوشكت أن تصير شاعرا يا أحمد وسرعان ما انحرفت.... ضحكنا.. ومضينا معا كل في طريق... وفي عشر سنوات... كتبت نصوصا بمعدل مجموعة صغيرة من 60 صفحة تحت عنوان أخيط البحر.. أحاصر الماء.... أعددتها مع نصوص لاحقة للنشر في كتاب أول، وأرسلتها إلى مجلة مواقف التي يرأسها الشاعر أدونيس.. نشرت كل النصوص، ومع رهبة الإصدار التي كانت في منتصف التسعينات إرثا ثقيلا من الخوف، كتبت تجربة أخرى وعنوانها ظل يتقصف نشرتها عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت العام 1995م لتكون أولى إصداراتي متناسيا بقصد ما قبلها... في تلك الأثناء كنت غادرت البيت وتنقلت بين منازل كثيرة.
........
خرجت من الأحساء بثوب
ساخن وندف قطن
نفختها أمي من
شق النافذة ..
خرجت في ليل
باحثا عن نخلة أخرى
غرسها أبي في طيش نادر
خرجت من الأحساء
بقنديل ساطع ..
محته الريح في
أول منعطف
الأخوة حفظـوا درس
الأب كثيرا ...
تنبهوا لعظـته
الصامتة وقامته الذاهبة
في الغيب..
تنبهوا بفراسة القنص
ولهفة الأسلاف.
ولأن شوكة غارت
في قدمي
مرقت الحكمة
على قوسي ..
وغابت بين النخيل.
.........
اشتغلت في الإدارة الثقافية في جمعيتي الثقافة والفنون بالأحساء والدمام، في الثمانينيات الميلادية، إلى جوار نفس العمل في جامعة الملك فيصل، وعملت في الصحافة الثقافية ومن ثم الصحافة الرياضية.. كتبت للمسرح واشتغلت فيه، متابعات السينما والمعارض التشكيلية وسافرت أكثر مما أستطيع، في 1997م صدرت مجموعتي الثانية خفيف ومائل كنسيان من دار الجديد بيروت التي أصدرت تجارب الأصدقاء بعد عام تجارب قصيدة النثر الأولى لعدد من شعرائنا حمد الفقيه، إبراهيم الحسين، أحمد كتوعه، عيد الخميسي، علي العمري، يوسف المحيميد ولحقهم شعراء من الإمارات وعمان وآخرين.
في خفيف ومائل كنسيان.. تخففت من حمولات باهظة، وتمرست على النسيان، لأدخل مأخوذا في خضم حيوات عملية سرقتني واستسلمت لخداعها، مثلا.. انتظرت الشعر الذي يجيء على استحياء وفي انقطاعات يطول ما بينها من وقت... خبطتني الحياة بفأسها في 2003 ولذت بغار الشعر وأرسلت مجموعة سهم يهمس باسمي.. التي كتبت في نفس واحد، وصدرت في 2005 من دار الكوكب ورياض الريس بيروت، في حين جمعت متفرقات ما سبق قبلها تحت عنوان الهواء طويل وقصيرة هي الأرض... والتي تأخر إصدارها حتى عام 2014م من نادي تبوك ومدارك للنشر... عام 2005 أقدمت على الكتابة مباشرة على الكيبورد.. نصوص كتبتنا البنات التي صدرت نهاية 2014م، كتبت بين 2006 و2007.... في 2009 عشت لفترة في هيوستن وفيها ذهبت إلى الشعر ولم أنتظر... ونتج عنها نصوص تمارين الوحش التي صدرت من (دار الغاوون) 2010م بيروت.... وفي مطلع العام الحالي 2015م صدر كتابي الشعري علامة فارقة من دار مسعى البحرين.
... في بداية 2013 ذهبت إلى الكتابة، وحركت حصاة راقبتها أكثر من خمسين سنة، حصاة في خاصرة الجبل، حصاة، النبع خلفها ينتظر منذ نصف قرن. اغتسلت وملأت جراري، وما اكتفيت، وفي قفزة طيش كتبت عند منتصف العام نفسه نصا ونشرته مباشرة في الفيسبوك... وما زلت مدهوشا ومرتبكا... أكتب وأنشر... مختبري بين كتفي... يا ليتني قادر على وصف ما يعتريني... ذاك الذي يخط الكلمات ويقلبها، ويناور معها بالهجر والمسافة... ذاك الذي يرسل قصائد بعدد أصابعه في العام للنشر ويفسح بينهم... ليتيح للشمس عقابه على التعجل... ها هو ينشر الواحد تلو الآخر، يكتب وينشر مجافيا نوافذ النشر التقليدية، وهاجما بكل ما بقي فيه من قوة....... ولا يدري أي عدو يتربص له في فضاء خرافي.
قول أخير:
لي من الأصدقاء ما يعجز الحب، لي من الرفاق ما ينضج الطريق ويرهق غاياته، لي من الأصحاب ما يخشاهم الغدر.... ويكفيني صديق واحد في الشعر.... لا يشفق على ما أكتب ولا تأخذه في الشعر لومة لائم...
رفيق
اختر في سفرك
من يميز بحذق عال بين خرق السفينة
وحرق السفينة،
من له جلد مثل جلدك على الليل ومكره،
من يكور الكلمات إذا جن الصمت،
ويطيرها ناضجة
لا محروقة ولا نيئة،
من تحمله أكثر من قدمين لزوم المشي وجلب الدهشة من منازلها،
اختره ذا يد لا تمسح على مكان إلا شفته،
وينوب في غيابك على حراسة الطريق،
ثم اختبر جبلا من الصمت بينكما،
اختبره في التخلي عن مكانك له.
دع البحر آخر برهان
وإذا نجوت؛
إياك
ثم إياك أن يموت قبلك.
........
في نهاية العام 2013م استلمت ادارة جمعية الثقافة والفنون بالدمام، وها أنا أعيش تجربة الادارة الثقافية للمرة الثانية بعد تجربة النادي الأدبي بالمنطقة الشرقية للفترة من 2006 إلى 2010م ..... إلا أنني كنت حريصا على عدم التفريط في الشعر مقابل العمل الاداري، وربما تداركت ذلك قدر الإمكان، في السنوات الخمس الأخيرة، وفيما كنت أعد كتابين شعريين شبه جاهزين للطباعة، جاءني اتصال الدكتور سعيد السريحي بخبر الجائزة، فارتبكت أوراقي وصار لزاما علي أن أتريث وأعيد النظر، ليس في ما أكتب فقط، بل في كل شيء.


جملة صلبة
أريد أن أكتب مرة واحدة
بما يكفي
أريدها كلمات تكف عني اللغو والكلام
أبري حوافها وأشد قوسها في أضيق عبارة
أريدها قصيدة مدببة محكمة ومحشوة بالبارود
مثلما أكتب عن الثور والمحراث
والفلاح والبذرة
والزهر والثمر
تحت مطر يصب كل صباح،
في جملة صلبة.
مثلما تشق الشجرة الكون إلى نصفين متساويين يحفران اسميهما على جذعها؛
أريدها وردة واحدة فقط
سهر على ريها الحقل كله،
وردة دون زيادة ولا نقصان.
أريدها مقروءة كل وقت
ولا أحتاج كتابة غيرها،
أريدها مثل صحراء مرسومة منذ القدم
لا خيام ولا جبال تنصب ثانية.
وأريد نهرا غزيرا
تعبره الجسور كل يوم
بعيدا عن فكرة الصياد والمصب
نهرا أجلس عند صدره
أغرف بيدي الاثنتين مطلقا حروفه لتتفرق عاليا،
حينها ألقم جملتي الأخيرة
وفي طلقة خاطئة
أرتعش لسماع صفيرها في أذني
العمر كله.