يتميز النظام الاجتماعي العادل عن غيره بثلاثة اركان اساسية، اولها قيامه على ارضية المساواة والتكافؤ بين الناس. وقد اشرت في مقال الاسبوع الماضي الى انكار عدد من قدامى المفكرين لهذه الفكرة وقبولهم بوجود تمايز عضوي بين الناس، يبرر اقامة نظام اجتماعي على اساس التمييز بين البشر. ونعلم مثلا ان بعض المذاهب السياسية (كالنازية مثلا) اعتبرت اتباعها (ابناء العرق الجرماني) ارقى من سواهم. وقد اقامت نظامها السياسي على هذا الاساس. وكذلك الامر في نظام التمييز العنصري الذي اتبعته الولايات المتحدة الامريكية حتى منتصف القرن الماضي. كما ان بعض القبائل العربية مازالت ترى في نسبها القبلي الخاص عنصر امتياز على الغير. ولا بد ان القراء يذكرون حكم احد القضاة قبل شهور بالتفريق بين زوجين بعدما وجد ان الزوجة اعلى نسبا من قرينها. وهو حكم يستند الى مرجعية معروفة في التراث الفقهي، لكن اساسه هو القول بامكانية التفاوت العرقي او الطبيعي بين الناس.
اضافة الى هذا، فهناك من يقر بتكافؤ البشر عند الولادة، لكنه يقبل ايضا بفكرة التفاوت المكتسب. اي التفاوت بين الناس بسبب انتماءاتهم. ونعرف ان بعض الاقطار (ومنها الكويت مثلا) تتبع نظام مواطنة مزدوجا، يقسم الناس الى مواطن درجة اولى وثانية، ويترتب على هذا الفارق تفاوت في بعض حقوق المواطنة. ومن الامور الرائجة في كثير من البلدان التمييز بين المواطنين المنحدرين من اصول محلية وبين المهاجرين. وثمة فقهاء مسلمون يحكمون بنجاسة غير المسلمين عامة، وهناك من يقصر الحكم على المشركين دون اهل الكتاب. وذهب بعض فقهاء العصور السالفة الى اشتراط الاصل العربي في التأهل للخلافة وإمرة المسلمين، واشترط آخرون النسب القرشي دون سائر العرب، وحصرها بعضهم في بني هاشم دون سائر قريش.
هذه الاراء جميعها تنطلق من اساس فكري واحد، خلاصته ان السلطة والموارد العامة هي امتياز تختص به الفئة المميزة، سواء كانت عرقا او قبيلة او دينا او مذهبا سياسيا او غير ذلك. وبناء عليه فانه يمكن تصور النظام الاجتماعي القائم على هذا الاساس كنظام ذي هيكلية مزدوجة يسمح لمختلف الناس ان يعيشوا في ظله، لكن من دون التمتع بالمساواة في الحقوق والامتيازات.
خلافا لهذا فقد ذهبت الفلسفة السياسية المعاصرة (ولا سيما في المدرسة الليبرالية) الى مفهوم مختلف تماما للعلاقة بين ابناء البلد الواحد يقوم على قاعدة «الشراكة في التراب». طبقا لهذا المفهوم فان جميع اعضاء المجتمع، سواء ولدوا فيه او انتموا اليه لاحقا، شركاء في ملكية الارض التي يقوم عليها هذا المجتمع وتخضع لنظامه. ويطابق هذا المفهوم الى حد كبير فكرة «الخراج» المعروفة في الفقه الاسلامي القديم، التي تؤكد على ملكية عامة المسلمين للموارد الطبيعية ملكا مشاعا.
بناء على هذا المفهوم فان الناس يولدون متساوين متكافئين ويبقون كذلك طيلة حياتهم. لا لأن احدا أقر لهم بهذه الصفة، بل لكونهم شركاء في ملكية النظام الاجتماعي بمجمله. ومن هنا فان اي عضو في هذا النظام لا يستطيع الغاء عضوية الاخر، لأنها ليست منحة بل حق مترتب على ملكية مشروعة.
واجه هذا المفهوم الأولي الكثير من المجادلات في بداية ظهوره، لكنه تطور في اطار الفلسفة الليبرالية، وتحول من ثم الى قاعدة للعمل السياسي في الدول الحديثة. كان اول التمثيلات السياسية لمفهوم الشراكة في التراب، هو نظرية العقد الاجتماعي. ثم اصبح اساسا لفكرة المجتمع المدني التي تعد ابرز اطارات المشاركة السياسية في عالم اليوم. وثمة بين الفلاسفة المعاصرين، من يدعو الى نظرية مماثلة على المستوى الكوني. واخص بالذكر استاذنا البروفسور جون كين الذي يدعو الى نظام عالمي يشترك فيه جميع البشر او من يمثلهم، من اجل تطوير الموارد الكونية ومكافحة التدمير الذي تتعرض له بيئة الارض، لانها ملك للجميع.
خلاصة القول إذن، ان الركن الاول للنظام الاجتماعي العادل، هو التكافؤ والمساواة بين اعضائه. فالناس جميعا اكفاء لبعضهم ومتساوون منذ ولادتهم وحتى يموتوا. هذا الوصف لا يتوقف على اقرار احد معين، بل هو حق طبيعي مترتب على شراكة اعضاء المجتمع في التراب الذي يقوم عليه النظام الاجتماعي وما ينطوي عليه من موارد.
talsaif@yahoo.com
اضافة الى هذا، فهناك من يقر بتكافؤ البشر عند الولادة، لكنه يقبل ايضا بفكرة التفاوت المكتسب. اي التفاوت بين الناس بسبب انتماءاتهم. ونعرف ان بعض الاقطار (ومنها الكويت مثلا) تتبع نظام مواطنة مزدوجا، يقسم الناس الى مواطن درجة اولى وثانية، ويترتب على هذا الفارق تفاوت في بعض حقوق المواطنة. ومن الامور الرائجة في كثير من البلدان التمييز بين المواطنين المنحدرين من اصول محلية وبين المهاجرين. وثمة فقهاء مسلمون يحكمون بنجاسة غير المسلمين عامة، وهناك من يقصر الحكم على المشركين دون اهل الكتاب. وذهب بعض فقهاء العصور السالفة الى اشتراط الاصل العربي في التأهل للخلافة وإمرة المسلمين، واشترط آخرون النسب القرشي دون سائر العرب، وحصرها بعضهم في بني هاشم دون سائر قريش.
هذه الاراء جميعها تنطلق من اساس فكري واحد، خلاصته ان السلطة والموارد العامة هي امتياز تختص به الفئة المميزة، سواء كانت عرقا او قبيلة او دينا او مذهبا سياسيا او غير ذلك. وبناء عليه فانه يمكن تصور النظام الاجتماعي القائم على هذا الاساس كنظام ذي هيكلية مزدوجة يسمح لمختلف الناس ان يعيشوا في ظله، لكن من دون التمتع بالمساواة في الحقوق والامتيازات.
خلافا لهذا فقد ذهبت الفلسفة السياسية المعاصرة (ولا سيما في المدرسة الليبرالية) الى مفهوم مختلف تماما للعلاقة بين ابناء البلد الواحد يقوم على قاعدة «الشراكة في التراب». طبقا لهذا المفهوم فان جميع اعضاء المجتمع، سواء ولدوا فيه او انتموا اليه لاحقا، شركاء في ملكية الارض التي يقوم عليها هذا المجتمع وتخضع لنظامه. ويطابق هذا المفهوم الى حد كبير فكرة «الخراج» المعروفة في الفقه الاسلامي القديم، التي تؤكد على ملكية عامة المسلمين للموارد الطبيعية ملكا مشاعا.
بناء على هذا المفهوم فان الناس يولدون متساوين متكافئين ويبقون كذلك طيلة حياتهم. لا لأن احدا أقر لهم بهذه الصفة، بل لكونهم شركاء في ملكية النظام الاجتماعي بمجمله. ومن هنا فان اي عضو في هذا النظام لا يستطيع الغاء عضوية الاخر، لأنها ليست منحة بل حق مترتب على ملكية مشروعة.
واجه هذا المفهوم الأولي الكثير من المجادلات في بداية ظهوره، لكنه تطور في اطار الفلسفة الليبرالية، وتحول من ثم الى قاعدة للعمل السياسي في الدول الحديثة. كان اول التمثيلات السياسية لمفهوم الشراكة في التراب، هو نظرية العقد الاجتماعي. ثم اصبح اساسا لفكرة المجتمع المدني التي تعد ابرز اطارات المشاركة السياسية في عالم اليوم. وثمة بين الفلاسفة المعاصرين، من يدعو الى نظرية مماثلة على المستوى الكوني. واخص بالذكر استاذنا البروفسور جون كين الذي يدعو الى نظام عالمي يشترك فيه جميع البشر او من يمثلهم، من اجل تطوير الموارد الكونية ومكافحة التدمير الذي تتعرض له بيئة الارض، لانها ملك للجميع.
خلاصة القول إذن، ان الركن الاول للنظام الاجتماعي العادل، هو التكافؤ والمساواة بين اعضائه. فالناس جميعا اكفاء لبعضهم ومتساوون منذ ولادتهم وحتى يموتوا. هذا الوصف لا يتوقف على اقرار احد معين، بل هو حق طبيعي مترتب على شراكة اعضاء المجتمع في التراب الذي يقوم عليه النظام الاجتماعي وما ينطوي عليه من موارد.
talsaif@yahoo.com