-A +A
حمد عائل فقيهي
(1)
عُرف العراق بأنه «وطن» البدايات الأولى.. والإطلالات الأولى.. لكل شيء جديد.. وكل ما هو ضد الطارئ.. والثابت.. فيه ومنه تعانق الشعر.. مع النثر.. وتلاقى التصوف مع الفلسفة.. وعرف أنه وطن الأحداث الكبرى والتحولات التاريخية العاصفة، لكأنه يمثل الذاكرة الأولى ولحظة البدايات.. أرض انفجار الأبجدية.. وانفجار العرق وتصادم الأعراق، وتصالحها في آن.. الأرض التي لا تطمئن إلى اطمئنانها.. ولا تستكين إلا لتعلن عن عدم الارتهان إلى ما يصنع سكينتها.. هكذا كان العراق.. ذلك المسافر بين تاريخ مكتوب بالضوء.. وتاريخ مكتوب بالدم، عالم ينهض على فعل الذاكرة، وعالم يقوم على أفعال الإلغاء والموت المجاني.. إنه حالة الوطن الهارب من «معنى الدولة» الى معنى المذهب بالرغم من أنه من أوائل الأوطان العربية التي تجسد فيها معنى الدولة في المفهوم القديم وفي المفهوم الحديث ومنذ أطل ما يسمى بالدولة الوطنية، بعد خروج الاستعمار ولقد كان العراق يمثل نموذج الدولة التي يمكن أن تكون أكثر التحاقاً بقطار العصر وأكثر التصاقاً، بالزمن الجديد بل وأكثر ذهابا إلى المستقبل.. ذلك أن العراق يملك عقولاً ضخمة وكبيرة في تفكيرها، وفي إبداعها، ولقد كانت ومازالت النخبة العراقية تمثل إحدى الواجهات الحضارية للأمة.. في الأدب والفن.. ألم تخرج حركة الشعر الحديث من هناك؟

(2)
.. يقول أحد الباحثين عن العراق: إنها أرض السواد.. والسواد هو اشتداد الخضرة والخصب كناية عن «سواد» جنة ما بين النهرين منذ الطوفان في الزمن الأول ومنذ أن غدا السواد بستاناً لقريش في الزمن الثاني وكناية عن سواد مآسيها منذ مصرع «إنكيدو» وبكائيات جلجامش مروراً بمصرع الحسين سيد الشهداء وبكائيات كربلاء، وصولاً إلى مصرع الإنسان العراقي العادي..
نعم.. وعبر هذا المشهد الدامي والدرامي.. يبدو العراق أكثر سواداً.. لقد تحول القتل على الهوية يشكل خبزاً يومياً في هذا الصراع، الذي تم إيقاظه واستنهاضه بين ركام السنوات.. بفعل اشعال الفتنة الجديدة في عراق ما بعد سقوط نظام صدام حسين.. وبفعل غياب الوعي بتركيبة العراق الاجتماعية والسياسية والمذهبية والجغرافية وعدم الوقوف على الحدود والتخوم التاريخية التي تقف بموازاة الحدود والتخوم العراقية وها نحن أمام عراق يتمزق.. أمام صِدَام ما هو سني مع ما هو شيعي وبحثاً عن عراق يتقدم فيه الانتماء للطائفة والمذهب على الانتماء للوطن والدولة، إنها المذهبية بامتياز.
(3)
في الطريق إلى الديمقراطية يظل العراق يبحث عن ديموقراطيته التي وعد بها المستعمر الأمريكي الجديد، وفي الطريق الى التعددية يظل العراقي يحلم بعراق آخر.. جديد ومختلف يقوم على التعددية القائمة على الاختلاف.. لا الاحتراب وفي البحث عن النموذج الناصع لعراق المستقبل كما بشرت به الإدارة الأمريكية المتورطة والغارقة في مستنقعات الدم.. ودوائر العنف.. وفي تمزيق جسد الإنسان العراقي وتمزيق جسد العراق.. يجيء صوت الشاعر الراحل بدر شاكر السياب عبر القصيدة النبوءة «أنشودة المطر» حزيناً وكئيباً ومغسولاً بالحزن والألم و«السواد»:
أكاد أسمع العراق يزخر بالرعود
ويخزن البروق في السهول والجبال
وفي العراق جوع
وينثر الغلال فيه موسم الحصاد
ومنذ أن كنا صغاراً كانت السماء
تغيم في الشتاء
ويهطل المطر
وكل عام حين يعشب الثرى نجوع
ما مر عام والعراق ليس فيه جوع
a_faqehi@hotmail.com