-A +A
قراءة: سعيد بوكرامي

يجسد ديوان الشاعر السوري عبدالله الحامدي «الرهوان» الصادر مؤخرا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر أثرا معبرا عن شعر المنفى، الذي عرفه العالم العربي منذ نكبة فلسطين ووصولا إلى أبشع خراب يعرفه الشرق الأوسط بدءا بالعراق وسوريا وليبيا.

ورغم القضايا المؤلمة التي يستدعيها الشاعر، فإن الشعر إحساس متدفق ووعي جمالي. قصائد المنفى، عند عبدالله الحامدي جراح مفتوحة لقلوب مستأصلة من أجسادها. وقصائد حب مستحيل تهيمن عليها غنائية تجمع بين الأمل واليأس، بين العذوبة والحدة، والحنان والهذيان. القصائد هدية جمالية للقارئ، لكن للأسف هدية سممها قدر متوحش يفترس الأمل والوطن.
يقول الشاعر:
وطني الذي عرفته
أكاد لا أعرفه
وطني الذي رأيته
أكاد لا أراه
وطني الذي غادرته
أكاد لا أغادره!
* * *
إلى متى يا وطني
تهجرني؟
أبحث عنك تحت مخدتي
فلا أجد غير ظلك
أغلق باب الغرفة
فتخرج من بخار فمي
وتختفي في الحال
إلى متى يا وطني
سوف تتوارى؟!
الشاعر المنفي غريب عن كل شيء، ومن كل شيء. هذا الاحساس بالمنفى يفضي إلى إحساس بالعزلة والانفصال عن العالم الجديد. وبالتالي يصبح الشاعر كائنا مختلفا و تعيسا. لكن هذه المفارقة، وهذه المشقة تؤدي بالشاعر نفسه إلى التطلع إلى عالم أفضل في الشعر أولا ثم حيث كل شيء سيكون تعويضا ممكنا. لهذا لا يجد الشاعر أفضل من القصيدة والذاكرة مكانا للإقامة والحنين. يقول الشاعر:
كالبرق
والتراب
يشتد به الحنين إلى الطين
منعتقا من بيوت الفقراء
منغلقا على سيرتها الناموسية الكاملة:
لبنة وحائطا وقبضة للريح
أو مسكنا للعمر..
كطفل أزلي
أجيل النظر في سمائك يا عامودة
عائما على بذرة الثلج
وغربة السنجاب
شعر المنفى لا يعبر عن مشاعر المنفى فحسب بل هناك أشياء أخرى تكتسي أهميتها من القضية نفسها مثل الحب، والاحتفاء الغنائي بالطبيعة. الألعاب اللغوية والالتزام بالقضايا الانسانية وفي مقدمتها مقاومة الظلم والشر. ومن هنا يحضر الموت والأسئلة الميتافيزيقية: رحيل الأحباب أو موتهم. لكن في المقابل فعلاقة شاعر المنفى بالقارئ علاقة ميسرة، لأن اللغة مشحونة بالعاطفة كما هناك تعاقد ضمني بين القارئ والشاعر يحفزه ما هو إنساني ويوثقه ما هو غنائي. وأهم ما يجعل القارئ يتغلغل في عوالم شعر المنفى الموضوعات المتكررة واللغة الحميمة ذات الإيقاع الرثائي. التي تثير الشجن. يقول الشاعر:
بين موتين
لوجه العشق
أرشف العسل المصفى
وأجوب حقلا دامي الأشواك!
بين حياتين
يعبر النورس
ويقسم السفح القديم للشاطئين..
يتخذ المؤرخ ريشته ودواته
ويسجل الهفوات.
وفي موضع آخر يقول الشاعر:
خذي رأسي
وعاطفتي
ودعيني
جسدا بلا ألم
لحنا ساهما في شريط
للنائمين على الرصيف
خبزا ساخنا للفقراء
خيالا من خيالات رواد المقاهي
الضجرة
وعصفا في المحيط
من ضفة الشام أتيتك
عانقيني
واقتليني
ولأن وطن المنفي في الذاكرة والوجدان، مضمخ بالأحزان والجراح ومهدد بوباء النسيان، فإنه يحضر في الترحال ككتاب مسموم للذاكرة أو عشق قاتل. تستدعيه المنازل الجديدة، فيتحول إلى أسطورة أو تاريخ أو أيقونة من «عامودة» إلى «طنجة». أي من المشرق إلى المغرب يدون الشاعر تاريخ الخسارة. من خسارة الشام إلى خسارة الأندلس. يتجلى ذلك بوضوح في في قصيدة «طنجة» حيث يقول الشاعر:
هل أنا أول العاشقين
هل أنا آخرهم؟
بين عطرين:
زهرة الأقحوان وطنجة
أو طنجة وزهرة الأقحوان
لا تغاري يا جميلتي الخضراء
فكل قمر لا يشبهك
يغرق في البحر
وكل بحر لا يغتسل بك
صحراء!
وليس عشق طنجة سوى عشق الشام، فما ضاع هنا، يضيع هناك. وما أمام الشاعر غير الرثاء.
يا من تسجل
توقف برهة
قلت: إن حوادث الأيام
دوما تستعاد
أريدها الليلة
لـ«أبي.. الصغير»!
لنبك قصر غرناطة الأخير
وننساه لينسانا
كراقصة مسافرة
من الخيمة إلى الحلبة
من الحلبة إلى الغيمة.
قد يعبر الشاعر منهكا كالغيمة من مكان إلى مكان يتهدده شرخ الهوية وجرح النسيان، لكن القصيدة تمكث راسخة في وجدان القارئ، بحزنها الشفاف، وغنائيتها العذبة، التي تجعل من ديوان «الرهوان» باقة ساحرة من مشاريع أغان تنتظر ملحنين جيدين ومؤدين متميزين.