قبل أيام ودعت ابني الأصغر جواد؛ الذي سافر للولايات المتحدة مجاهدا!، كما عشرات الآلاف من الشباب السعوديين الذين سبقوه للسفر، ولكن جهاده وجهاد أقرانه هو من نوع مختلف، لأنه جهاد يستهدفون به رسم ملامح مستقبلهم في بلدان بعيدة، ويستعدون فيه لخوض معركة مصيرية بعد عودتهم لأرض الوطن، ولكنها معركة هي أيضا من نوع مختلف، معركة لإثبات ذواتهم، وتأهيل أنفسهم، للمساهمة في تنمية بلدهم، وتحقيق طموحاتهم، مستعينين في ذلك - بعد الله - بأحدث الأسلحة، ولكنها أيضا أسلحة مختلفة، ليس من بينها حزام ناسف، أو رشاش آلي، ولا لغم أرضي، وإنما أسلحة قوامها أحدث العلوم والمعارف والتطبيقات.
لذلك لم أستطع أن أخفي غضبي وانزعاجي الشديدين حينما قرأت الأسبوع الماضي بيانا (جهاديا) خطيرا؛ يختلف عن مفهوم الجهاد (العلمي) الذي يقوم به أبناؤنا الدارسون؛ سواء في داخل المملكة أو خارجها، حيث فوجئ مجتمعنا الآمن؛ الذي عانى كثيرا من المحرضين، ومنتهكي الأمن الفكري، ببيان أصدره بعض (المحتسبين)؛ من الذين يعتبرون أنفسهم (دعاة للجهاد)، وهم 52 (داعية) سعوديا، يحثون فيه الشعب السوري تحديدا؛ والشباب المسلمين بشكل عام، على النفير!، وبذل الغالي والنفيس من أجل جهاد الروس في سوريا الشقيقة، ورغم الحرص الواضح لأولئك الدعاة على صياغة بيانهم بدهاء شديد، ليفلتوا من أية مساءلة قانونية، إلا أنهم لم ينجحوا في إخفاء لهجة التحريض في ذلك البيان.
والغريب أن من يقرأ بيان أولئك (المحتسبين)، سيتبادر إلى ذهنه بأن الشعب السوري الشقيق هو شعب خانـع!، استكان للدعة!، وقبل بالأمر الواقع الذي يحاول (النظام) فرضه عليه بالقوة!، في حين أن ذلك الشعب الأبي هو من أطلق فتيل الثورة ضد استبداد ذلك النظام قبل خمس سنوات، وهو بالتأكيد شعب لم ينتظر صدور بيانات دعاتنا ولا غيرهم، لكي يواصل صموده في وجه النظام الفاشي، ومواجهة التنظيمات الإرهابية المتواجدة على الأرض السورية، فضلا عن مقاومة التدخل الروسي السافر فيها!.
ومن الواضح الآن أن ما أقدم عليه أولئك (الدعاة) يندرج ضمن سيناريو تحريضي مشبوه؛ ظاهره هو دعم المقاومة السورية، وباطنه محاولة مكشوفة، لاستدراج شبابنا لكي ينخرطوا (مجددا) في عمليات قتالية خارج المملكة؛ تجرمها أنظمتنا المحلية والقوانين الدولية، ويكون فيها أبناؤنا وقودا لمعارك لا دخل لهم بها، وهو سيناريو خطير، يعيد للأذهان مضامين أشرطة الكاسيت، والكتيبات «الدعوية»، التي دأب مثل أولئك المحرضين قبل عدة عقود، على توزيعها في مساجدنا وندواتنا ومخيماتنا الصيفية، خلال فترة الغزو السوفيتي لأفغانستان، وكانت نتيجتها التحاق الكثير من صغار السن من شبابنا آنذاك لتنظيم القاعدة، ليعودوا إلينا بعد ذلك بأفكار مشوشة وعقائد منحرفة، و«خبرات جهادية»!؛ لانزال نعاني من تبعاتها حتى اليوم.
وربما لا يعلم أولئك الدعاة أن بيانهم التحريضي؛ سوف يضر كثيرا بسمعة المملكة، ويكرس انطباعا مشوها عنها بأنها مصدر للتنظيمات المتطرفة، كما يشوش على الموقف السياسي المعلن لبلادنا؛ الداعم للشعب السوري، والداعي إلى تنحي رئيس النظام عن السلطة؛ كخطوة ضرورية لإعادة الأمن والاستقرار لذلك البلد الشقيق، هذا فضلا عن أن بيان أولئك الدعاة ستكون له نتائجه الوخيمة مستقبلا على فصائل المقاومة السورية، لأنه يعطي نظام بشار الأسد ذريعة جديدة لتأكيد ادعاءاته الكاذبة؛ التي يحاول الترويج لها دوليا بأنه يواجه في الأساس تنظيمات إرهابية، وليس شعبا أعزل، ومواطنين أبريـاء، استشهد منهم مئات الآلاف، وتشرد الملايين في دول العالم!.
أما على الصعيد الشرعي، فإن مضمون بيان (دعاتنا) ليس فقط مفتقدا للشرعية، بل ويتناقض معها بشكل صارخ، لأكثر من سبب؛ أولها هو أن الدعوة للجهاد هي من اختصاص ولاة الأمر، وذلك ما لا ينطبق على أولئك الدعاة ؟!.
أما السبب الثاني فهو أن جهاد الدفع، هو ما تقوم به فصائل المقاومة السورية المؤلفة من الشعب السوري، لذلك فإن بيان دعاتنا يأتي خارج السياق المنطقي؛ ناهيك عن مخالفته الشرعية!، لأنه بمثابة: تفسير الماءِ بعد الجهدِ، بالماءِ!.
أخيرا، كنت أتمنى لو أن الموقعين على البيان، خصصوا بيانهم لخدمة مصالح بلدهم ومواطنيهم بدلا من تأليبهم، كأن يوجهوا رسالتهم لبعض تجارنا الجشعين والمحتكرين، كي يدعوهم إلى عدم المغالاة في الأسعار، أو حث ملاك العقارات على عدم رفع الإيجارات سنويا وبنسب كبيرة؛ خصوصا على ذوي الدخل المحدود، أو نصح بعض المواطنين بعدم التستر التجاري على الوافدين، واستنزاف أموال البلد وتحويلها للخارج، أو الاحتساب بالدعوة إلى عدم تعنيف النساء والأطفال والخدم في المنازل، أو التبرع بالأعضاء بعد الوفاة، أو الحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية والمنشآت العامة، إضافة لحث المقاولين على إنهاء المشروعات المتعثرة؛ وغير ذلك الكثير من مظاهر الخلل المجتمعي، هل تراهم يفعلون؟!، أم أن الاحتساب لا يصح إلا لو كان مؤدلجا!، ويخدم أهدافا مستترة!..