-A +A
عبدالله بن فخري الأنصاري
لا يمكننا تجاهل تحذيرات المؤسسة العسكرية التركية من التدخل في أزمة الرئاسة الحالية. فهذه المؤسسة تحظى بامتياز دستوري خاص لبيان أوامر «الإله العلماني» للأمة التركية. فقد نصبت المؤسسة العسكرية نفسها وصية على مبادئ النظام العلماني المنصوص عليها منذ دستور 1937 ومارست تدخلها المباشر في الشأن السياسي والإداري والقضائي التركي من خلال الانقلابات العسكرية وفرض الأحكام العرفية وحالات الطوارئ، ومن خلال مجلس الأمن القومي الذي هيمن على المسار السياسي والإداري للدولة، ومن خلال نفوذها القضائي عبر محاكم أمن الدولة. وقد اعتُبر النفوذ الذي تتمتع به هذه المؤسسة أكبر عقبة في طريق انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. وكان للتفاوض التركي مع الاتحاد الأوروبي الأثر الأكبر في تقليص النفوذ السياسي الذي تتمتع به هذه المؤسسة العسكرية. فقد أجبر الدعم الشعبي لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي المؤسسة العسكرية على الرضوخ لتلك الإصلاحات الدستورية والتشريعية التي واكبت المفاوضات التركية الأوروبية. واستهدفت هذه التشريعات الحد من تدخل هذه المؤسسة في العملية السياسية من خلال ترتيب العلاقات بين السلطات المدنية والعسكرية لتواكب النظم المعمول بها في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. فقد حدّت هذه التعديلات من هيمنة المؤسسة العسكرية على مجلس الأمن القومي، وقلصت أعضاءه العسكريين إلى خمسة أعضاء في مقابل تسعة من المدنيين، وأسندت لمدني منصب الأمين العام للمجلس بعد أن شغل الجنرالات هذا المنصب منذ تأسيسه. كما فقدت توصيات مجلس الأمن القومي صفتها الإلزامية للحكومة، وألغيت سلطات أمين عام المجلس الإشرافية فيما يتعلق بمراجعة تطبيق الحكومة لتوصيات المجلس، وباتت تلك التوصيات ذات طبيعة استشارية غير ملزمة. وحدّت تلك التعديلات من نشاط المجلس الذي أصبح يجتمع مرة كل شهرين بدلا من مرة كل شهر. وبموجب التعديلات بات البرلمان التركي مشرفا على الميزانية العسكرية، وتم إلغاء منصب ممثل الأمن القومي في اجتماعات المجالس العليا للتعليم والإعلام. كما تم إنهاء حالة الطوارئ في المناطق الجنوبية والشرقية من البلاد، ومن ثم الغاء العمل بقانون الطوارئ مما أدى إلى تقليص نفوذ المؤسسة العسكرية في هذه المناطق. وكانت الحكومة قد وضعت حدا لدور المؤسسة العسكرية في السلطة القضائية بإحلالها قاضياً مدنياً محل القاضي العسكري في محاكم أمن الدولة والتي تم إلغاؤها فيما بعد. ولم تخف المؤسسة العسكرية قلقها من تلك الإصلاحات وظهرت تيارات معادية في الجيشِ التركي لتلك الإصلاحات والتي رأوا فيها إضعافا لدور المؤسسة العسكرية في حماية «القيم العلمانية»، وتمكينا لما أسموه بـ «الأصوليين الإسلاميين» من اعتلاء مناصب قيادية في الدولة. ورغم تلك الإصلاحات فإنه من السذاجة تجاهل قوة المؤسسة العسكرية وإمكانية لجوئها لخيار الانقلاب العسكري. فصحيح أن الشارع التركي أيد تلك الإصلاحات، واختار المسار الديمقراطي على حماية المبادئ العلمانية المحميّة من قبل الأقلية. إلا أن تلك الإصلاحات لم تسهم في عودة المؤسسة العسكرية إلى ثكناتها وصدها عن التعاطي مع السياسة التركية. فمازالت تتمتع هذه المؤسسة بنفوذ واسع وسط المواطنين الأتراك وسط انخفاض نسبة المؤيدين للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بسبب ما تلقاه تركيا من معارضة داخل المجتمع الأوروبي حيال رغبتها في الانضمام إلى الاتحاد، وإدراك الشارع التركي أن هذه الإعتراضات تتعلق ليس فقط بالإصلاحات الدستورية والتشريعية، وإنما تتعلق أيضا بالهوية الإسلامية والثقافية للشعب التركي، وموقف تركيا من القضية القبرصية. وعلى الرغم من موقف الاتحاد الأوروبي وانتقاده لتدخل الجيش التركي في الحياة السياسية إلا أن السور الذي يقيمه الاتحاد الأوروبي حول انضمام تركيا للاتحاد قد أسهم في تنامي نفوذ المؤسسة العسكرية وفضح زيف الديمقراطية الأوروبية المزعومة. وربما كان خيار الإنقلاب العسكري هو البديل الأمثل أمام أوروبا لتوجيه اللوم بتبديد الحلم التركي للالتحاق بالمنظومة الأوروبية إلى المؤسسة العسكرية، والخيار الأمثل للمؤسسة العسكرية لاستعادة نفوذها السياسي والإداري والعسكري على المجتمع التركي. وأيا كان الأمر، فالأمل ألا تحول هذه الأزمة الحلم الديمقراطي التركي الى كابوس.
afansary@yahoo.com