ها أنت ثانية تتدحرج في ظلمة درابين محلة البجاري وقد اسودّت الدنيا في عينيك من جديد، مفردة الآه تشعر بها مثل سكين باشطة تشطر صدرك إلى نصفين، حتى قدماك لم تعودا تقويان على حملك، تتكئ على أول عمود كهرباء يصادفك، تغمض عينيك لفترة تائهة من زمنك الأجرب ثم تتذكر كلماتها الأخيرة: (حبيبي.. أرجوك إذا متّ، عدني بأن لا تتزوج غيري..).. لهجتها المحببة إليك تأجج فيك اشتعال الروح، فتروح في نشوة مفاجأة تشعر بها لحظة انزوائك في مقهى الأدباء، وحيدا في هذه الظهيرة الحارقة ترشف شايك ببطء، حالما بتلك الليالي السعيدة التي قضيتها معها، فتنفتح أمامك بوابة الحنين، وتشع صورتها طافية تدور حولك في حزمة ملونة، تجلس إلى جانبك، تطلب شايا ثم تدخن سيجارة، تبادرك بذات الكلمات المحببة إلى سمعك، ولم تفعل شيئا إزاء ما تروم به تجاهك أيها الماضي في اندفاعك المجهول، تحاول أن تحرك يدك تجاه شعرها المنسرح، أن تفتح فاك لتخبرها بأنك على العهد باقٍ، وأنك لن تنظر إلى غيرها أبدا، لكنك تتفتت في حضرة وجودها الطافي مع دخان سيجارتيكما، ممضوغا مثل قطعة سكر، ذائبا يأخذك الوهج في امتداد لا حصر له، تهبط من علوّ أفقك المضبّب بالهزائم، تماما مثل طائر مقطوع الجناحين، تهوي جسدا بلا روح، روحا بلا جسد، خفيفا مهضوما، تتكدس كتلة من رماد تذوي وتغور في تيه أبدي وتبدأ بالصراخ: (خذيني معك أيتها الحبيبة.. أوراقي تذبل دونكِ والهموم تتكالب عليَّ خذيني إليكِ خذيني..) وبصعوبة تحاول تثبيت صورتها في عينيك المغرورقتين بالدموع، أن توقِف هالتها قبالتك أن تلمسها، تستنشق أريجها الرطب، مثلما يحلو لك سابقا حين عودتها من العمل، تتذكر مذاقها، عبقها الطري..
تعاود الكرّة في تحريك جسدك المتخشب، فتدور بك المقهى، تنقلب الأرائك والمناضد، يتهدم السقف وتغوص في غبار خانق كأنك في ساحة حرب، تمر من أمامك العربات مثقلة بجثث القتلى وتسمع هدير الطائرات ودويّ القنابل، فتحاول وأنت الجريح أن تتحرك، وتطلب النجدة من رفاقك، فتجد نفسك مشلولا تحت ركام الحديد والطابوق، تشعر بالخيبة من أن ينقذك أحد ما، فتتيه في صحراء خيالك، باحثا عن مستقبلك المجهول في غياهب أخاديد التسكع، المعبأة بمسافات الرفض الدائم، للعيش في واقعك المرير، تلاحقك حواف الأفق الأسود، الذي يغطيك بشعارات جنائزية متسلطة مرعبة مثل جناحي غراب عملاق، يروّعك ويمتص دمك، تنتحب مختنقا بعبراتك، تلطم وجهك فتتحسس لزوجة الدم النازف، تحاول من جديد أن تنهض تمد يدك نحوها، وبكلمات مبعثرة تتوسل أن تخرجك من تحت الأنقاض، لكنها وبذراعين مبسوطتين لا تحرّك ساكنا ترفع وجهها للسماء وتطير.
تعاود الكرّة في تحريك جسدك المتخشب، فتدور بك المقهى، تنقلب الأرائك والمناضد، يتهدم السقف وتغوص في غبار خانق كأنك في ساحة حرب، تمر من أمامك العربات مثقلة بجثث القتلى وتسمع هدير الطائرات ودويّ القنابل، فتحاول وأنت الجريح أن تتحرك، وتطلب النجدة من رفاقك، فتجد نفسك مشلولا تحت ركام الحديد والطابوق، تشعر بالخيبة من أن ينقذك أحد ما، فتتيه في صحراء خيالك، باحثا عن مستقبلك المجهول في غياهب أخاديد التسكع، المعبأة بمسافات الرفض الدائم، للعيش في واقعك المرير، تلاحقك حواف الأفق الأسود، الذي يغطيك بشعارات جنائزية متسلطة مرعبة مثل جناحي غراب عملاق، يروّعك ويمتص دمك، تنتحب مختنقا بعبراتك، تلطم وجهك فتتحسس لزوجة الدم النازف، تحاول من جديد أن تنهض تمد يدك نحوها، وبكلمات مبعثرة تتوسل أن تخرجك من تحت الأنقاض، لكنها وبذراعين مبسوطتين لا تحرّك ساكنا ترفع وجهها للسماء وتطير.