-A +A
قراءة : نصر سامي، ترجمة القصائد : ريم الشاوش
أليسيا راميراز شاعرة مكسيكية سعدت بالتعرف عليها من فترة، شعرها متوفر بعديد اللغات لكنها لم تترجم للعربية سابقا رغم جودة شعرها وحبها الكبير للغة العربية وصداقتها مع عديد الكتاب من العالم العربي. وما يدهش في هذه الشاعرة هو انفتاحها على آداب العالم إذ تسعى بدأب كبير إلى العمل ضمن فرق ومجموعات تخترق عوائق اللغات لتخرج في شكل انطولوجيات مهمة صدرت منها اعداد كثيرة. وشعرها محمل بعوالم الداخل المعتمة، منشغلة هي بحيرة الحياة وألم الإنسانية التي حادت عن حقيقتها. تبدو قصيدتها سهلة لكنها مكتنزة بصور كثيرة، تعتمد بشكل كلي على العين، لكنها عين داخلية تمزج المرئيات بحبر الدواخل الخبيئة، وجملها القصيرة غالبا تحمل عمقا مستمدا من بيئات مغايرة ومن مشاعر متباينة استطاعت الشاعرة أن تعطيها من روحها ومن ثقافتها، فبدت سهلة في ظاهرها ومكتنزة بمعان كثيرة.
من مشاكلنا الكبرى في العالم العربي أن النص النقدي يغفل تماما النص المترجم وخصوصا النص الشعري من الدرس الأكاديمي، إلا ما يكون ضمن الأدب المقارن وهو اختصاص ظامر أو ملغى من جامعاتنا، لهذا لا نهتم نقديا بآثار كبرى تم نقلها للعربية، فلا نتساءل عن سر محافظتها على شعريتها رغم أنها مخالفة لمعهود إيقاعنا ومعهود بلاغتنا. ونظل ننظر إلى هذه الترجمات المؤثرة نظرتنا إلى شيء «أقل» قيمة من الأصل. نحن، المفتونين بالأصل وبالطهارة وبالصفاء، نرمي على الرفوف أحد أرقى نصوص الآداب ولا نتدارسها لأنها ليست أصلية. تسافر هذه النصوص من لغة إلى لغة وفي سفرها تحمل أهم مقوماتها الأساسية، وتحمل مقوّمات أخرى هي وليدة الاحتكاك مع لغة أخرى. ليس مهما هنا أن نتحدث عن الخطأ والصواب، ولكن من المهم أن نتحدث عن خصوصية نص يتنزل في أفق مسيج تسييجا تاما بالقواعد القديمة بطريقته المخصوصة، وقدرته رغم المخالفة على مؤالفة من نوع جديد، وعلى اختراق السياجات. طرحت هذه الفكرة لأن شعر أليسيا راميراز يطرح أسئلة من هذا النوع. كيف نتقبله؟ إننا لا نجد فيه كل ما تعودناه في شعرنا من شقشقة لفظية وترادفات مزعجة وبنى متأنقة وتواز تقفوي وغيره من الهلهلة التي اعتدنا تسميتها قواعد النوع.
يتنزل النص، نص أليسيا، دون أن يعبأ بأفق التلقّي، يبدو بسيطا، ومرتبا مثل ضربات ماكنة الخياطة، ومنضبطا لنوع من التوازن تلعب فيه المفردة دور المحرار، وهو مع ذلك ينقلك بمهارة من دور المحايد إلى دور المهتم. ففي قصيدة «مسافر» تحملنا الشاعرة برفق إلى فضاءات تخيل بديعة حيث «الكلام سماء تمطر نجوما»، وحيث «الملح يتآمر ضد الوجود العابر والدائم». لا تبحث عن الاستعارة، وقد تحولت طينا في اليد، وغيمة في العين. بل افتح عينيك لتامل ما أعطتك الكلمات. في نفس القصيدة أيضا صور أخرى منها صورة تأتي دون بهرج وهي تنتج عن تركيب إضافي بسيط في كلمة «قممك»، يصبح الرجل المخاطب جبالا تتأتى من قممها النغمات التي تصعد عبر روح الأشجار. نفس عميق يستفيد من الرومانسية لكنه يفتحها على ليل من المعاني الخبيئة التي تخرج من الشجر المسكون بالأرواح. إن الشاعرة تؤنسن عالمها، تبث فيه الروح. وتسري فيه نورا. شعرية عميقة لا شك، بأقل الأشياء وهجا، الكلمات القليلة المعلقة كحقق العاج في شمس الظهيرة. في قصيدتها «غياب» تشعر أن الشاعرة لا تستعير عالم الطبيعة، بل ترى أنها مسكونة ومخطوفة بروح الأرض، فهذا الراحل الذي تخاطبه الذي دمر رحيله الوادي العاري، اسمه لا يزال مخبوءا تحت الأوراق التي تطير مع الريح، الشاعرة عليمة بكل ما هو فوق الأوراق وبكلّ ما هو فوقها. وهي تعرف أن الشعر الذي تكتبه لا يجديها في شيء، فعصرها لا يواتيها. يسكن غيابه قلب اللغة، ويستأثر بالحروف، يصبح الليل، ويمتلك الضوء، لكن شمسه تظل تنير الغياب. أما في نصها «عزلات ضبابية» تعالج الشاعرة موضوعا ذاتيا، وهو تمزقها بين الحزن والأمل، وفي قصيدة «بعد» تحاول تجاوز الانفعال إلى الفعل، تقول «أشكلك في/ القطرات الشفافة/ التي تضيء»، فعل في اللغة لا أكثر، نوع من صناعة الأمل في عالم لا يعبأ كثيرا بالحزانى. ومن بعيد تقف الرغبة في نهاية القصيدة متحفزة تشحذ اضافرها لتنقض.
ما ضر لو استقام لدينا اختصاص يعنى بنصوص غير مدجنة، بكر، آتية من ضفاف أخرى، وتحمل معها مقومات عديدة خسرت في الترجمة بعضها، واكتسبت في السفر بعضها الآخر. وتزيت خلال كل ذلك بزي لا هو أصلها المتعارف على قوانين شعريته، ولا هو الثقافة الجديدة العربية التي تخالف بالقطع بقوانينها شعريته التي ستبدو غير مقننة. شخصيا أحب هذا الشعر، أجده المؤثر الأول في كتابتي، إن قصيدة «الأرض الخراب» العربية التي ترجمت مبكرا للعربية هي التي اشتغلت في الشعر العربي الحديث وأثرت عمقيا فيه، وليس الأصل الانجليزي. كذلك الملاحم الكبرى، وكذلك الأساطير، وكذلك الكتب المقدسة.. وكذلك شعر عشرات المعلمين الكبار في كل الثقافات، كلها كلها حقنت الشعر العربي بأكثر أسراره سحرا، بما لا يمسك باليد، ولا يرى بالعين، بل يتعلم في كتب النقد. وأكثرنا لا ينظر إلى ترجمة الشعر نظرته إلى قصيدة عربية، لأنها تخالف معهود قراءاته، فنحن أعداء لما نجهل. لقد استقر لدينا الآن كم نصوصي مهاجر كبير، ولتمرار تجاهله لن يغير حقيقة الأمر وهي أن بعض الترجمات هي من أفضل قصائد الشعر العربي الحديث. وأن الكثير من شعر هذه الأيام ليس غير تمارين بسيطة إذا وضعناه قدام ترجمات الشعر الجيدة. أما شاعرتنا إليسيا فهي قلقة جدا على الشعر ومحبة له في آن، تحرص في نصوصها على توسيع دائرة المتخيل، لهذا تنشغل بربط صلات مع العالم عبر الترجمة. وهذه النصوص القصيرة ليست غير جزء من كتاب نأمل أن يرى النور خلال السنة القادمة، وإليسيا راميريز مينجاراز شاعرة ومغنية ومترجمة ومذيعة بالإذاعة والتلفزيون، ولدت في مدينة تيخوانا، باخا كاليفورنيا، بالمكسيك. درست بكالوريوس في علوم الحاسب الآلي، وماجستير في علوم الحاسوب في الذكاء الاصطناعي، وماجستير في علوم الحاسب الآلي في جامعة مونبلييه الثاني، فرنسا. وهي متطوعة في فرنسا كأس العالم لكرة القدم عام 1998 في مجال الصحافة الدولية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية. استقرت في فرنسا خمس سنوات. وقد ترجمت قصائدها إلى الإنجليزية والفرنسية والعربية وغيرها، ونشرت في العديد من المختارات والمجلات الأجنبية. وقد شاركت في مؤتمرات هامة للشعر على المستوى الوطني والدولي، وسافرت إلى عديد الدول منها الولايات المتحدة الأمريكية وبيرو وغيرها وقرأت قصائدها في مهرجانات الشعر في الأرجنتين، ولوس انجليس والمغرب وإسبانيا والبرامج الإذاعية في المكسيك، ولوس انجليس، وأمريكا الوسطى وكندا. وهي الأن تستعد لطباعة أكثر من كتاب بلغات مختلفة، وما يجلب الانتباه في شخصيتها انجذابها القوي للمتخيل المشترك، وبحثها عن صلات قوية وجدتها أخيرا في الترجمة، فسفر النصوص فيه متع كثيرة، أقلها معرفة الناس والبلدان والحكايات وروائح الأجساد. وهي بصورتها الوحيدة التي تتكرر بشكل لافت لا تركز إلا على الوجه وعلى المشاهد القريبة التي تظهر الملامح والخصوصيات، الشعر معها حياة، وهي تعيش الحياة لترويها كما يقول غابريال غارسيا ماركيز. ترويها لمتعة ذاتية أولا وللمشاركة مع الناس في مرحلة ثانية.
حين اقترحت قصائدها على المترجمة الصديقة ريم الشاوش لم تتردد، وقالت إنها أحبت دفء نصوصها وانسياب المعاني وتدفقها. إلى أن استقامت لها النصوص خلال فترة قصيرة في حلة عربية قشيبة. وفي ما يلي نقدم لقراء «عكاظ» خمس قصائد في ترجمة أولى لشاعرة مهمة تترجم لأول مرة للغة العربية، وترجمة هذه النصوص أعدتها ريم الشاوش وهي مترجمة متمرسة تتميز بالصبر وتحرص على الدقة وحسن الصياغة، نأمل أن تكون هذه المادة بدايتها الحقيقية.


مسافر
مسافر
يسجن فضائي
إنها تمطر نجوما
في الكلام العبق،
عند القمر المكتمل
الملح يتآمر
ضد وجودك
العابر والدائم.
الهواء الأزرق يموج
النغمات الندية
المتأتية من قممك،
التي تصعد
عبر روح
الأشجار.
أنغام مبحوحة
على بقعة
الأفق.
أتحسسك
في حفيف
الأزهار
التي تمزج
سوائل مظلمة،
في مقطوعات الحمائم الخيالية،
في موسيقى النور
وفي الحلم الّذي نبنيه معا.
ألتقي بك
في لهفة
مفقودة أو موجودة،
في صوت المطر
المنهمر،
مسافر جميل
بخطوات حالمة
وبأذرع من نار.


غارقة في وهم
الرغبة العبق
أصل ليلا
إلى أماكن غريبة،
كغرابة الشعور الذي يخلفه
أثرك،
صحراء مظلمة
لسماء عتيقة
شعور يعيد عيش
كلمتك المنيرة،
عند الاقتران
الوهمي للغة.
غياب
رحلت
كالمطر،
بعد أن دمرت
الوادي العاري
اسمك تحت الأوراق
التي تطير مع الريح،
شاعرة بقدوم بيت شعر
سلم أنغامه غير مجد
في عصر غير مؤات
أواصل دون فهم
الخمس حروف
التي تكون
غيابك.
لم يأت الليل بعد..
ولغة الشمس،
لم تعد أبدا نفسها.
عزلات ضبابية
أتفاجأ
مسافة قريبة
من هبة النسيم العليل،
تساؤل عبثي.
عزلات ضبابية
مزينة بالاعتدالات
الصيفية الدائمة.

أنا محتاجة لإسكات
الكلمات التي تفيض،
لإهماد الدموع
التي تزين وجهي.
حزن يسكن
في المرايا الكئيبة للروح
كمسافر غير شرعي.
أحزان الغياب
تستسلم ببطء
في يدي المهجورتين.
ارتباط أجوف
! بالامل
المعنى يحتجب
أمام القلب المشظى
والصمت المجرد
يخنق النجوم.
التي ستكف عن الاشعاع
في بحار الحنين
حاملة معها عتمات
وشظايا المرآة.
حيث اليوم
ينطفئ
انعكاسي.
تمزق في جذوري..
ذكريات قاتمة
تفتقر للحصافة،
وأوراق جافة
متناثرة
على الأرض
بعد
أشكلك في
القطرات الشفافة
التي تضيء
محيط أيدي الريح
الرفيع.
هي نفسها
التي ترقص
على
وجهي،
تعلق تطلق
طيران
العصافير العابرة للنور
في الأفق.
أجنحة السماء تحمل
شذى
نكهات متعددة الألحان،
أجنحة تمزج
أراضي الطين الندية
بنجل الهند
والبرغموت،
المتناثرين
في صلابة جسدك.
ألمحك
في صمت
راحتي يدي المهجورتين،
كأنك
القطرات
وكأني النهر،
ضخامة ثملة
بالأسطورة،
تدفق ضد الريح
مد وجزر كلامي،
في لغة اللبلاب.
إنهم يعقدون
أصواتا خيالية
مجردة،
قادرة على الارتفاع
جلود تنهار
من
الداخل
في عتمة
الرغبة
إنها تمطر
مقاطعة حنين
ستعلن،
كهذا النسيم
الذي يهاجر
في الهواء.
الماء يخصب
جسدي
نفسك يغرق
سياق الكلام.
أسرار لا متناهية
يحملها الريح
إلى بعيد،
بعد العدم.
طريق يتسكع
في الندى
الذي تركته القطرات
تحت الأغصان.
العصافير تتخلص
من أعشاشها،
بحثا
عن اللجوء الموعود.
أجراس الكنيسة
تتناغم،
في الخارج الليل
معلق.
المطر رغب في تجفيفي،
كهذه العصافير
التي تطوق
الأشجار
عند غلق
الحدائق.
هدوء عينيك
يجتاحني،
أجنحة في نشوة
توقف طيرانها
عند قدم صمتي.