يوم الجمعة الماضي هز الإرهاب باريس، قبله بيومين ضرب بيروت وقبل ذلك بأسبوعين سقطت طائرة مدنية روسية في سيناء، يُشك أنها أسقطت بفعل عمل إرهابي. ويبقى أضخم عمل إرهابي، شهده العالم الحديث، ذلك الذي دمر برجي التجارة العالمي في نيويورك صبيحة الحادي عشر من سبتمبر 2001. منذ إنشاء النظام الدولي الحديث الذي تتسيده الدولة القومية الحديثة، منذ 200 سنة، يأتي الخطر الأساسي من خارج أعضائه، بعد أن تعايش النظام الدولي مع عقلانية مفترضة لأعضائه، في ظل فراغ لسلطة (حكومة عالمية) ملزمة قانونيا وسياسيا وأخلاقيا للتأثير المباشر والرادع الماضي على سلوك أعضائه.
إلا أن الأنظمة الدولية المتعاقبة، بالذات نظامي عصبة الأمم والأمم المتحدة، لم تكتف بالركون إلى عقلانية ورشد الحكومات، بل طورت أساليب أكثر عملية لمنع الحروب الكبرى بينها التي تسببت تاريخيا في تعاقب الأنظمة الدولية المختلفة، من أبرزها: نظام توازن القوى، الذي انتهى عمليا بنشوب الحرب الكونية الثانية.. ونظام توازن الرعب النووي، الذي جعل من المستحيل اندلاع حروب كونية بين القوى العظمى. لأول مرة في تاريخ الأنظمة الدولية الحديثة، يتم الانتقال من نظام دولي إلى آخر، دون حدوث حرب كونية فاصلة، كما حدث في نهاية العقد الثامن من القرن الماضي، التحول من نظام القطبية الثنائية، إلى نظام القطب الدولي الأوحد -مؤقتا- بزعامة مؤقتة ومترددة من قبل الولايات المتحدة.
الإرهاب تاريخيا كان موجودا على مستوى الصراع السياسي في داخل الكيانات السياسية، في شكل اغتيالات سياسية واغتصاب قسري للسلطة، بل وحتى في شكل حروب أهلية محدودة. بل إن الإرهاب كان سببا في نشوب حروب كونية مؤذنة بتغيرات جذرية في النظام الدولي، كما حدث في حادث اغتيال ولي عهد النمسا (فرانز فيردناند) وزوجته على يد طالب صربي (غافريلو برنسيب) في سيراي?و 28 يونيه 1914، حيث تسبب ذلك الحادث الإرهابي بإشعال فتيل الحرب الكونية الأولى. طوال فترة الحرب الباردة كان الإرهاب أداة من أدوات الصراع بالوكالة بين الدول العظمى، مثل ما كان الحال في الحروب المحدودة. بالإضافة إلى أن الإرهاب كان أداة من أدوات الصراع السياسي في داخل كيانات الدول نفسها، بسبب مظالم ومشاكل لم تراع اهتماما عند قيام الدول نفسها، مثل الحزب الجمهوري الإيرلندي.. أو بسبب الصراع الأيدلوجي بين القوى السياسية الداخلية التي كانت تغذيه الدول العظمى، كما كان هو حال الألوية الحمراء في إيطاليا.
لم تظهر لظاهرة الإرهاب خلفية كونية، بصورة واضحة، إلا بعد انهيار نظام الحرب الباردة. بسقوط نظام الحرب الباردة، ظن العالم أنه لم يعد هناك عداوة مباشرة بين القوى العظمى تهدد بتقويض ما بدا وكأنه استقرار ممتد للنظام الدولي الجديد. إلا أن تركات نظام الحرب الباردة في بؤر الصراع التقليدية في أفغانستان والشرق الأوسط وشرق وجنوب أوروبا وما نتج عن تفكك الاتحاد السوفيتي على تخوم حدود روسيا الغربية والجنوبية.. وكذا بعض بؤر التوتر في أمريكا الجنوبية وجنوب شرق آسيا، وبالأخص نشاط الكثير من الأقليات حول العالم التي شعرت بمظالم من قيام الدولة القومية... كل تلك كانت مظاهر لنيران تتقد تحت الرماد، جاءت بما يعرف بظاهرة الإرهاب.
لا ننسى أيضا تدخلات الدول الكبرى في تشكيل كيانات الدول الحديثة في مناطق توتر تاريخية، عن طريق ترسيم الحدود الاعتباطي.. أو عن طريق زرع كيانات غريبة، مثل إسرائيل، في أجساد كيانات ثقافية وحضارية عريقة.. أو الغزو المباشر للقوى العظمى لبعض مناطق التوتر التقليدية، كما حصل في أفغانستان (الروس والأمريكان)، وفي العراق (أمريكا وإيران) وسوريا (إيران والروس). كل تلك مظاهر لسلوكيات غير مسؤولة لقوى دولية وإقليمية ساهمت في ترويج بضاعة العنف وقادت إلى عدم استقرار مناطق هي بطبيعتها تاريخيا وديموغرافيا متوترة وغير ومستقرة.
كل ذلك قاد لأن يخرج العفريت من القمقم لينتقل في حركة سلوكه من المحليات إلى العالمية، ليصبح الإرهاب مرضا عضالا يصيب العالم بأسره، وتستعصي عملية علاجه، مالم تتم عملية تشخيصه بصورة صحيحة غير متحيزة تقدر جذور المشكلة الحقيقية وتراعي ثقافات وأفكار أكثر تعقيدا متجذرة في وجدان شعوب وثقافات موغلة في التاريخ ومتشبعة بتحيزات ومظالم وملاحم قابعة في اللا وعي عند تلك الشعوب والقوميات.
أحداث باريس الإرهابية يوم الجمعة الماضية، لا يجب أن يوقف عندها بالإعراب عن أقسى عبارات الإدانة والشجب، ولا بالتعبير عن مواساة الضحايا الأبرياء. كما أنه لا يجب أن يكون رد الفعل بعنف منظم أو عفوي ينصب على أناس أبرياء في داخل المجتمعات الغربية، ليس لهم من ذنب إلا ما ينتجه التعصب الأعمى من تحيز في التفكير وتمييز عنصري تغذيه ثقافات وأيدولوجيات وثارات تاريخية، لن تفلح إلا في صب المزيد من الزيت على النيران المشتعلة.
أي معالجة فعالة لظاهرة الإرهاب، من أجل اجتثاثها، لابد أن تنطلق من التشخيص السليم لهذا المرض العالمي العضال، بدون تحيز عنصري أو تحامل ثقافي أو منطلق فكري أو خلفية أيدلوجية من أي نوع أو على أي مستوى. العالم بأسره عليه أن ينظر للمشكلة من جذورها.. وأن يتحلى بالشجاعة والجرأة لدفع ثمن علاجها.. وأن يعترف كل طرف بدوره في التسبب بها، ويتقدم بشجاعة وجرأة للإعلان عن مسؤوليته فيها، وصدقيته في علاجها.
أحداث باريس المؤسفة، بالقطع لن تكون الأخيرة، مالم يبدأ العالم بأسره خطوات العلاج الناجع لهذا الداء العالمي العضال المسمى بالإرهاب الذي يصيب مفاصل استقرار النظام الدولي ودورته الحياتية، قبل أن يضرب الإرهاب ضربة نوعية غير تقليدية، لا يعلم سوى الله أين ستكون.. ولا كيف تقع.. ولا من هم ضحاياها، ولا مدى وجسامة ضررها.
إلا أن الأنظمة الدولية المتعاقبة، بالذات نظامي عصبة الأمم والأمم المتحدة، لم تكتف بالركون إلى عقلانية ورشد الحكومات، بل طورت أساليب أكثر عملية لمنع الحروب الكبرى بينها التي تسببت تاريخيا في تعاقب الأنظمة الدولية المختلفة، من أبرزها: نظام توازن القوى، الذي انتهى عمليا بنشوب الحرب الكونية الثانية.. ونظام توازن الرعب النووي، الذي جعل من المستحيل اندلاع حروب كونية بين القوى العظمى. لأول مرة في تاريخ الأنظمة الدولية الحديثة، يتم الانتقال من نظام دولي إلى آخر، دون حدوث حرب كونية فاصلة، كما حدث في نهاية العقد الثامن من القرن الماضي، التحول من نظام القطبية الثنائية، إلى نظام القطب الدولي الأوحد -مؤقتا- بزعامة مؤقتة ومترددة من قبل الولايات المتحدة.
الإرهاب تاريخيا كان موجودا على مستوى الصراع السياسي في داخل الكيانات السياسية، في شكل اغتيالات سياسية واغتصاب قسري للسلطة، بل وحتى في شكل حروب أهلية محدودة. بل إن الإرهاب كان سببا في نشوب حروب كونية مؤذنة بتغيرات جذرية في النظام الدولي، كما حدث في حادث اغتيال ولي عهد النمسا (فرانز فيردناند) وزوجته على يد طالب صربي (غافريلو برنسيب) في سيراي?و 28 يونيه 1914، حيث تسبب ذلك الحادث الإرهابي بإشعال فتيل الحرب الكونية الأولى. طوال فترة الحرب الباردة كان الإرهاب أداة من أدوات الصراع بالوكالة بين الدول العظمى، مثل ما كان الحال في الحروب المحدودة. بالإضافة إلى أن الإرهاب كان أداة من أدوات الصراع السياسي في داخل كيانات الدول نفسها، بسبب مظالم ومشاكل لم تراع اهتماما عند قيام الدول نفسها، مثل الحزب الجمهوري الإيرلندي.. أو بسبب الصراع الأيدلوجي بين القوى السياسية الداخلية التي كانت تغذيه الدول العظمى، كما كان هو حال الألوية الحمراء في إيطاليا.
لم تظهر لظاهرة الإرهاب خلفية كونية، بصورة واضحة، إلا بعد انهيار نظام الحرب الباردة. بسقوط نظام الحرب الباردة، ظن العالم أنه لم يعد هناك عداوة مباشرة بين القوى العظمى تهدد بتقويض ما بدا وكأنه استقرار ممتد للنظام الدولي الجديد. إلا أن تركات نظام الحرب الباردة في بؤر الصراع التقليدية في أفغانستان والشرق الأوسط وشرق وجنوب أوروبا وما نتج عن تفكك الاتحاد السوفيتي على تخوم حدود روسيا الغربية والجنوبية.. وكذا بعض بؤر التوتر في أمريكا الجنوبية وجنوب شرق آسيا، وبالأخص نشاط الكثير من الأقليات حول العالم التي شعرت بمظالم من قيام الدولة القومية... كل تلك كانت مظاهر لنيران تتقد تحت الرماد، جاءت بما يعرف بظاهرة الإرهاب.
لا ننسى أيضا تدخلات الدول الكبرى في تشكيل كيانات الدول الحديثة في مناطق توتر تاريخية، عن طريق ترسيم الحدود الاعتباطي.. أو عن طريق زرع كيانات غريبة، مثل إسرائيل، في أجساد كيانات ثقافية وحضارية عريقة.. أو الغزو المباشر للقوى العظمى لبعض مناطق التوتر التقليدية، كما حصل في أفغانستان (الروس والأمريكان)، وفي العراق (أمريكا وإيران) وسوريا (إيران والروس). كل تلك مظاهر لسلوكيات غير مسؤولة لقوى دولية وإقليمية ساهمت في ترويج بضاعة العنف وقادت إلى عدم استقرار مناطق هي بطبيعتها تاريخيا وديموغرافيا متوترة وغير ومستقرة.
كل ذلك قاد لأن يخرج العفريت من القمقم لينتقل في حركة سلوكه من المحليات إلى العالمية، ليصبح الإرهاب مرضا عضالا يصيب العالم بأسره، وتستعصي عملية علاجه، مالم تتم عملية تشخيصه بصورة صحيحة غير متحيزة تقدر جذور المشكلة الحقيقية وتراعي ثقافات وأفكار أكثر تعقيدا متجذرة في وجدان شعوب وثقافات موغلة في التاريخ ومتشبعة بتحيزات ومظالم وملاحم قابعة في اللا وعي عند تلك الشعوب والقوميات.
أحداث باريس الإرهابية يوم الجمعة الماضية، لا يجب أن يوقف عندها بالإعراب عن أقسى عبارات الإدانة والشجب، ولا بالتعبير عن مواساة الضحايا الأبرياء. كما أنه لا يجب أن يكون رد الفعل بعنف منظم أو عفوي ينصب على أناس أبرياء في داخل المجتمعات الغربية، ليس لهم من ذنب إلا ما ينتجه التعصب الأعمى من تحيز في التفكير وتمييز عنصري تغذيه ثقافات وأيدولوجيات وثارات تاريخية، لن تفلح إلا في صب المزيد من الزيت على النيران المشتعلة.
أي معالجة فعالة لظاهرة الإرهاب، من أجل اجتثاثها، لابد أن تنطلق من التشخيص السليم لهذا المرض العالمي العضال، بدون تحيز عنصري أو تحامل ثقافي أو منطلق فكري أو خلفية أيدلوجية من أي نوع أو على أي مستوى. العالم بأسره عليه أن ينظر للمشكلة من جذورها.. وأن يتحلى بالشجاعة والجرأة لدفع ثمن علاجها.. وأن يعترف كل طرف بدوره في التسبب بها، ويتقدم بشجاعة وجرأة للإعلان عن مسؤوليته فيها، وصدقيته في علاجها.
أحداث باريس المؤسفة، بالقطع لن تكون الأخيرة، مالم يبدأ العالم بأسره خطوات العلاج الناجع لهذا الداء العالمي العضال المسمى بالإرهاب الذي يصيب مفاصل استقرار النظام الدولي ودورته الحياتية، قبل أن يضرب الإرهاب ضربة نوعية غير تقليدية، لا يعلم سوى الله أين ستكون.. ولا كيف تقع.. ولا من هم ضحاياها، ولا مدى وجسامة ضررها.