-A +A
نصير المغامسي (جدة)
لا تزال أسعار السلع الأساسية تراوح مستوياتها المرتفعة، التي وصلت إليها، منذ ارتفاع أسعار النفط في العام 2008م، عندما بلغ سعر البرميل 147 دولارا، وعلى الرغم من التدرج الذي وصلت إليه أسعار البترول، لم تتأثر تلك السلع بتبعات الانخفاض، بل لم تتراجع هي الأخري وظلت عند معدلاتها الكبيرة.
«عكاظ» تجيب عن سؤال الساعة من خلال آراء لعدد من الكتاب والمراقبين الاقتصاديين حول «لماذا تتأثر أسعار السلع والخدمات بارتفاع النفط فقط دون انخفاضه»، الذين أكدوا أنه يوجد انفصام حقيقي بين أسعار السلع وانخفاض النفط، إذ أنه من الملاحظ أنها تتجه فقط نحو الارتفاع سواء ارتفعت أسعار النفط أو انخفضت، بينما تكون مرونة السعر منخفضة جدا عندما تتراجع أسعار النفط، مبينين أن السبب في ذلك يرجع إلى ما يسمى بـ«احتكار القلة»، وهم التجار المحتكرون للسلع والمتحكمون بالأسعار، موضحين أن المستهلك بات في حلقة دائرية مفرغة يتقاذفه خلالها المستوردون، الذين يعمدون إلى تجفيف المعروض من السلع؛ تمهيدا لرفع أسعارها تدريجيا، وتجار التجزئة الذين يرفعون الأسعار تصاعديا بحجة أن المورد أو الوكيل زاد عليهم السعر، في عمليه تبادلية تهدف للربح الكثير في أسرع وقت ممكن، مطالبين وزارة التجارة بإطلاق مؤشر خاص يبين القيمة الحقيقية للسلع التي تصل إلى المملكة بجانب مؤشر الوزارة الخاص بأسعار السلع في السوق المحلي.
يشير عضو جمعية الاقتصاد السعودية عصام مصطفى خليفة، إلى أن هناك علاقة طردية بين تكلفة إنتاج السلع وأسعار النفط، فكلما ارتفعت أسعار النفط ارتفعت تكلفة إنتاج السلع والمواد الغذائية وبالتالي تزيد أسعارها، والعكس صحيح، ونتيجة لانخفاض أسعار النفط بما يقارب 50 في المئة منذ بداية الأشهر الأولى من هذا العام 2015م، فقد أشارت بيانات أسعار السلع الرأسمالية والاستهلاكية والغذائية والمواد الخام الشهرية التي يعلنها صندوق النقد الدولي، إلى انخفاض أسعار كثير من السلع خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة مقارنة بالأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الماضي في معظم دول العالم بنسب متفاوتة ما بين 10-25 في المئة، كما انخفض مؤشر أسعار الغذاء الذي تعلنه منظمة الأغذية والزارعة شهريا إلى أدنى مستوياته منذ عام 2010 م.
وقال: بالرغم من أننا نعتمد على استيراد معظم السلع والمواد الغذائية من الخارج يفترض أن نتأثر إيجابا بهذا الانخفاض وأن يظهر انخفاض أسعار السلع العالمية على السلع المحلية، ولكن ذلك لم يحدث حتى الآن، بل نلاحظ أن أسعار السلع والمواد الغذائية تتجه فقط نحو الارتفاع سواء ارتفعت أسعار النفط أو انخضفت، وهذا دليل على أن مرونة السعر في السوق السعودية تتفاعل بسرعة مع ارتفاع أسعار النفط حيث ترتفع جميع الأسعار، بينما تكون مرونة السعر منخفضة جدا عندما تنخفض أسعار النفط ويكون هناك انفصام حقيقي بين أسعار السلع وانخفاض أسعار النفط.

غياب المرجعية
ويشير خليفة إلى أن هناك العديد من الأسباب وراء ذلك منها أن السوق السعودية تعتبر بعيدة عن الكفاءة الاقتصادية؛ بسبب بما يسمى بسيطرة احتكار القلة، وهم التجار المحتكرون للسلع والمتحكمون بالأسعار؛ لذا لا يوجد تغير داخلي في السوق يرتبط بالمتغيرات الخارجية إلا في حال ارتفاع أسعار السلع.
ويضيف: ومع تقديرنا للجهود الكبيرة التي تبذلها وزارة التجارة والصناعة للحد من السلبيات الكثيرة الحاصلة في السوق السعودية ومنها ارتفاع الأسعار وتباينها بين المحلات التجارية إلا أن ضعف الإمكانات المادية والبشرية، وعدم وجود آلية واضحة لديها وغياب المرجعية التي تبين أسعار السلع والتي يمكن أن يلجأ إليها المستهلكون، جعلت الوزارة غير قادرة على حماية المستهلك؛ ما دفع ضعاف النفوس من التجار لاستغلال ضعف إمكانات وزارة التجارة، في التلاعب بالأسعار يقينا بأن ليس هناك رقيب عليهم.
يضيف عصام خليفة: غالبا يأتي التبرير من التجار المحتكرين بعدم التفاعل مع الأسعار الجديدة المنخفضة عالميا، إلى أن السلع المعروضة في الأسواق السعودية حاليا تم استيرادها بأسعارها السابقة وتحتاج لتخزين للفترة من ثلاثة إلى أربعة أشهر، ومضى الآن ما يقارب ستة أشهر من انخفاض العديد من الأسعار عالميا، ولا زالت أسعار السلع لدينا في ارتفاع، فكثير من التجار يتحجج بارتفاع أسعار التأمين والشحن وارتفاع سعر صرف الدولار وغيرها من المبررات لتحميل المستهلك كلفة النهائية للسلعة، لذا لا أتوقع أن تنخفض أسعار السلع حتى لو مر عام من انخفاض أسعار النفط، دون أن يكون لوزارة التجارة دور حيوي في ضبط هذه المسألة، كما أن وزارة التجارة مطالبة بمتابعة المتغيرات الخارجية في أسعار السلع والخدمات، وإجبار تجار الداخل على التفاعل إيجابيا مع الانخفاض العالمي لأسعار السلع.


ابتزاز المستهلك
ويستطرد خليفة: كما أن المستهلك ينبغي أن يكون إيجابيا وأن يعتاد التأقلم على مواجهة أي محاولات للإضرار بمصالحه عبر رفع الأسعار من دون مبرر، من خلال تعاونه مع بقية الأجهزة المعنية في ملاحقة أي محاولات لابتزازه تجاريا، وإلا فإننا لن نكون منطقيين حين نطالب الجهات الحكومية بالرقابة على الأسعار في جميع المحلات التجارية دون تفاعل المستهلك، فذلك هو المدخل الفعلي لإحداث تغيير حقيقي في ميزان القوى بين التجار والمستهلكين.
ويختتم خليفة بالقول: كما أن غياب ثقافة الوعي الاستهلاكي عند الأسرة السعودية، وعدم رغبتها في تغيير النمط الاستهلاكي واختيار السلع البديلة الأقل سعرا وذات الجودة الجيدة، ساهم في ارتفاع أسعار كثير من السلع الاستهلاكية.
ويرى الدكتور سليمان السماحي رئيس المجلس التنفيذي في جمعية حماية المستهلك، أن استمرار ارتفاع الأسعار لبعض السلع الغذائية والاستهلاكية يتحمله التجار وخاصة المستوردين منهم الذين يقوم أكثرهم باحتكار السلع والبضائع والتحكم بأسعارها، بل وتجفيف المعروض منها تمهيدا لرفع أسعارها تدريجيا، وهو ما يعطي الدور أيضا لتجار التجزئة برفع الأسعار تصاعديا بحجة أن المورد أو الوكيل رفع عليهم السعر، في عمليه تبادلية تهدف للربح الكثير في أسرع وقت ممكن من قبل الموردين وتجار التجزئة.
وقال: لا ننسى أيضا الأعباء التي تضعها الدولة من فرض رسوم جديدة أو تعديل على بعض أنظمة الاستيراد من الخارج، فلربما تكون مدعاة لرفع السعر على بعض السلع والمواد الاستهلاكية الأساسية منها أو الثانوية، وللخروج من هذه الدوامة أو الحلقة الدائرية، أرى أن تقوم وزارة التجارة بالتنسيق مع الجهات المعنية ذات العلاقة للسلع والبضائع المستوردة لإطلاق مؤشر خاص يبين القيمة الحقيقية للسلع التي تصل غلى المملكة إلى جانب مؤشر الوزارة الخاص بأسعار السلع في السوق المحلي.

توحيد أسعار السلع
ويضيف السماحي: من خلال هذه الآلية تستطيع وزارة التجارة بالتنسيق مع ملحقياتها بالخارج ضبط ومراقبة الأسعار بدقة والتي ربما نرى بعدها تحركا إيجابيا من الوزارة لإجبار المستورد على وضع السعر الحقيقي لبضائعه المستوردة من الخارج، فتطبيق مثل هذه الإجراءات سوف تكشف لنا حجم الغلاء الذي قد يطرأ على البضائع المستوردة بعد وصولها إلى نقاط البيع ويفضح بالتالي الغلاء الذي يمارسه بعض التجار. ويشدد الدكتور السماحي بالقول: نحن في بلد يتسم بالحرية الاقتصادية، ولكن لا يعني هذا أن التاجر حر في ممارسة الاحتكار، ووضع الأسعار التي يريد، مضيفا: نتعشم كثيرا بعد تأسيس وكالة لحماية المستهلك بوزارة التجارة أن تبادر إلى تفعيل دورها المأمول لتحقيق تطلعات المواطنين في تأصيل حماية المستهلك بكل فاعلية واقتدار. وتابع: في هذا الصدد آمل من وكالة حماية المستهلك أن تضع من ضمن أولوياتها القادمة تفعيل التشريعات والضوابط والأنظمة، وإعداد الأجهزة الرقابية المدربة التدريب العالي والمؤهل لتعزيز الإنتاج المحلي، وتحقيق الاكتفاء الذاتي وتطوير الأنظمة الاقتصادية والتجارية لتواكب حجم الطلب المتزايد وزيادة عدد السكان وتطبيق فكرة الشراء الجماعي للسلع الاستهلاكية، بالإضافة إلى توحيد أسعار السلع الاستهلاكية ما بين دول مجلس التعاون الخليجي وما بين التجار في الدولة الواحدة وإلغاء الاحتكار في استيراد السلع وتشجيع المنافسة لكل من لديه الملاءة المالية والكفاءة والاقتدار.

مواجهة الاحتكار
وينوه الكاتب الاقتصادي غسان بادكوك بأن هناك جملة من الأسباب أدت إلى ارتفاع الأسعار أولها ضعف تطبيق أنظمة مواجهة الاحتكار، فعلى مدى عقود ظلت مؤسسات محدودة تحتكر استيراد وبيع نسبة كبيرة من السلع الإستراتيجية، وتقديم بعض الخدمات الرئيسة، إلا أنه من المؤمل أن يؤدي القرار الأخير القاضي بالسماح للشركات الأجنبية بالعمل مباشرة في السوق السعودية، وبنسبة تملك 100 في المئة في قطاعي الجملة والتجزئة إلى خلخلة وتفكيك الاحتكارات، ومن ثم توسيع الخيارات أمام المستهلكين وصولا لتخفيض الأسعار.
ويقول بادكوك: كما أن من الأسباب التي أدت لارتفاع الأسعار يتمثل في محدودية جهود رقابة الأسواق، والتي تتطلب زيادة فعاليتها فرض عقوبات رادعة على المغالين، من بينها التشهـير ولو استلزم الأمر فرض سقف أعلى لنسب الأرباح، إضافة لزيادة عدد أطقم الأجهزة الرقابية المعنية بالمراقبة الميدانية للأسواق. وتابع: أما السبب الأخير لارتفاع الأسعار فيتمثل في غياب ضوابط تنظيم الإيجارات، والذي أطلق يد الملاك في فرض زيادات سنوية متتالية، خصوصا على إيجارات المحلات التجارية، ليقوم أصحاب الأعمال بتجيير أية زيادة إلى المستهلكين، إضافة لتسبب ذلك أيضا في رفع تكلفة بند السكن أيضا، وطالما لم يتم وضع قانون لتنظيم الإيجار، فسوف يستمر ارتفاع الإيجارات وقد ينسحب ذلك على مواد البناء والسلع الاستهلاكية. ويؤكد بادكوك، أن المتغيرات الاقتصادية المحلية والعالمية المتسارعة منذ منتصف العام الماضي وحتى الآن؛ كان من المفترض أن تؤدي إلى تراجع الأسعار بدلا من ارتفاعها؛ ولكن ذلك لم يحدث، وفي مقدمة تلك المتغيرات الارتفاع الملحوظ على سعر صرف الدولار، الذي كان يجب أن يؤدي إلى تراجع قيمة معظم وارداتنا من «غير» الولايات المتحدة وذلك لسببين أولهما أن ارتباط سعر صرف الريال بالدولار، والثاني اعتمادنا إلى حد كبير في معيشتنا على الواردات، يضاف إلى ذلك التراجع الكبير على أسعار النفط والمشتقات البترولية، والذي يعتبر مكونا مهما في تكلفة الإنتاج والنقل.

ضعف الرقابة
ويضيف بادكوك: في نهاية الأمر اتطلع من مصلحة الإحصاءات العامة القيام بإصدار تقرير شهري يتضمن أسماء الشركات والمؤسسات التجارية التي تقوم بتخفيض أسعار منتجاتها وخدماتها نظرا لانخفاض تكلفة الإنتاج، وتفاعلا من المستجدات في الأسواق العالمية، وأن يتم التعاون مع وزارة التجارة في رصد ومعاقبة المتلاعبين بالأسعار تحقيقا لحماية المستهلك. ويبين أستاذ المحاسبة بجامعة الطائف الدكتور سالم بن سعيد باعجاجه، أن العلاقة بين تكلفة إنتاج السلع في معظم الدول وأسعار النفط هي علاقة طردية، لذلك كلما ارتفعت أسعار النفط انعكس ذلك على كلفة إنتاج المواد وغلاء أسعارها، والعكس صحيح ولذا كان من المتوقع أن يؤدي الانخفاض الأخير لأسعار النفط، على كلفة الإنتاج لكثير من مواد السلع وبالتالي على كلفتها النهائية.
ويقول: من الملاحظ أن أسواقنا المحلية لا تتأثر بتاتا بأي انخفاض في أسعار النفط، بل أن أسعار السلع حين ترتفع في سوقنا المحلية لا يمكن أن تعود من جديد إلى الانخفاض، حتى وإن تغيرت جميع المؤثرات الخارجية، والسبب في ذلك عائد - من وجهة نظري - إلى ضعف الرقابة من قبل وزارة التجارة، من خلال المطالبة بإجبار تجار الداخل على التفاعل مع المتغيرات الخارجية التي تؤثر في جميع الأسواق، إلا في السوق السعودية، فمعظم التجار والموزعين يحتجون بكلفة الأسعار السابقة للسلع لمواجهة انخفاضها في الأسواق العالمية، وكأن سوقنا المحلية استثناء من تلك الأسواق أو أن تلك الأسواق ليس بها تجار وموزعون. ويشير الدكتور باعجاجه، إلى أن جميع المستهلكين في السوق السعودي لاحظوا وبوضوح الفارق الكبير في أسعار كثير من السلع الموجوده في الأسواق الأخرى المجاورة للمملكة، فضلا عن تفاوتها بين المحال التجارية في السوق المحلية. وقال: لن يستفيد المستهلك في السوق السعودية من انخفاض تكلفة إنتاج كثير من السلع بسبب انخفاض سعر برميل النفط ما لم تقم وزارة التجارة بدورها المطلوب في ضبط الأسعار.