-A +A
وليد احمد فتيحي
صناعة القادة الربانيين هي من أعقد الصناعات على وجه الأرض. فالإنسان بطبيعته التي خُلق عليها وركب بها هو نتاج الظروف التي تحيط به، والتجارب التي يمر بها، والأشخاص الذين يلتقي بهم، والأفكار التي يقرؤها، والمشاهد التي يستقبلها ممن حوله. عقل يزن المعطيات وقلب ووجدان يستقبل الأحاسيس والمشاعر التي يزنها العقل على شكل معطيات. ولكن أي معطيات تلك التي تصل إلى العقل؟.. فقط تلك التي كُتب لعينه أن تراها وتلك التي كُتب لأذنيه أن تسمعها. فهي عين ترى ما كُتب لها أن ترى.. ثم يُترجم العقل ما يرى بالأدوات التي اكتسبها الإنسان في حياته من دراسة وعلم وتجارب في تحليل المرئيات، وتكون ترجمة ما يرى في تلك اللحظة وذلك المكان على حسب الحالة النفسية والعقلية للإنسان.. بمحدوديتي الزمان والمكان. وهي كذلك أذن تسمع ما كُتب لها أن تسمع ويترجمها العقل كذلك بالأدوات التي اكتسبها الإنسان في حياته من دراسة وعلم وتجارب في تحليل السمعيات وتكون ترجمة ما يسمع في تلك اللحظة وذلك المكان على حسب الحالة النفسية والعقلية للإنسان بمحدوديتي الزمان والمكان.
ثم يأتي العقل ليزن المعطيات التي تستقبلها الحواس الخمس «والسادسة كذلك»، ليضع العقل ميزانه المعقد كذلك متأثراً في تلك اللحظة بعاملي الزمان والمكان والحالة النفسية والعقلية والفسيولوجية «العضوية» التي يكون عليها.

بل ان أهم أداة لصُنع القرار هي ذلك الميزان المعقد الذي يملكه كل إنسان، ومن خلاله يحكم على الأشياء، وهذا الميزان في حد ذاته هو كذلك نتاج ما اكتسب الإنسان طوال عمره من علم وفكر وتربية وخلق وتجارب صقلت صنع هذا الميزان. فإن أُحكم صنعه من خلال كل هذه المعطيات الزمانية والمكانية كان ميزاناً أقرب للصواب والدقة والحكم العادل وإلاَّ فلا، بل ويذهب كثيرون ومنهم أنا أن هناك كذلك عاملاً وراثياً يدخل في صناعة هذا الميزان مثل بصمة الجينات فالعرق دَسَّاس «وكان أبوهما صالحاً»، بل وما يزيد الأمر تعقيداً هو أن المعطيات التي تستقبلها الحواس لا تذهب مباشرة إلى ميزان العقل وإنما يستقبلها القلب أولاً فيضفي عليها روحها... فيثقلها أو يخففها فتصبح للكلمة التي تسمعها الأذن روحها بناءً على تقدير قلب ذلك الإنسان فتثقل في ميزان ذلك العقل، أو روحاً تخف في الميزان وليس بالضرورة أن ما اضفى القلب عليها صحيح فقد يخفف ما كان أحق أن يثقل، وقد يثقل ما قد كان أحق أن يخفف والقلب بين يدي الرحمن يقلبه كيف يشاء ويحول بين المرء وقلبه، ويلقي في قلب المؤمن من المعاني الربانية ما يشاء.
وما بين القلب والعقل يصنع القرار، وما بين القرار والقرار تصنع الأحداث، وما بين الحدث والآخر على قدر صواب القرار وسلامته تُعاد صناعة عقل وقلب الإنسان، بل تُعاد معايرة الميزان الذي به ترجح الأمور ويصنع القرار المستقبلي... فكل قرار يقدم عليه الإنسان يُعيد صياغة الإنسان وصناعة ميزانه. فالإنسان متغير كل دقيقة فهو في هذه الساعة غير الإنسان الذي كان قبل ساعة فسيولوجياً وعقلياً ونفسياً، بل إن ميزانه قد أعيدت معايرته فقراره قد يختلف الساعة لنفس معطيات الساعة السابقة. وما بين التجربة والأخرى يُصنع الإنسان ويُصنع القادة. فمن بربك ذاك الذي يدعي أن هناك صناعة أعقد وأدق من صناعة القيادة الربانية في الإنسان؟.. ومن ذاك الذي يدعي أنه يستطيع أن يصنع القادة غير صانع وخالق الإنسان؟.. إنها ليست نظريات تدرس في الجامعات.. بل هي هبة ورزق ورعاية ربانية.. قرأت الكثير من مراجع الكتب في الإدارة والقيادة ودرستها على يد أعظم الأساتذة في أفضل الجامعات في العالم ولكني لم أقرأ أجمل ولا أدق ولا أعظم ولا أصدق من حقيقة «ولا أقول نظرية» لابد أن يستخرج منها منهج لتخريج القادة متجسدة في ثلاث كلمات للحق تعالى في قوله «ولتُصنع على عيني». ليتنا ندرس في جامعاتنا منهجاً مستوحى من هذه الحقيقة الربانية الأزلية، ونستخرج منها ما هي الشروط التي تجعل أي إنسان أهلاً لأن يُصنع على عيني الله، وما هي المؤهلات النفسية والفسيولوجية الفعلية والروحية التي تجعل الإنسان أهلاً لرعاية الله فتصقله العناية الربانية وتصنع له الظروف والمكان والزمان ويرى بنور الله ويسمع بأذن الله ويبطش بيد الله. ليتنا نُدرس في جامعاتنا كيف نصلح النية ونجعلها متجردة، وكيف نغوص في أعماق أنفسنا لنطهِّر النوايا ونجعلها خالصة لله، وكيف نحدد الغايات والأهداف النبيلة السامية ونفاضل ونوازن بين هذه الأولويات وننتقي بها أطهر الوسائل والأدوات لتحقيقها. انني أعتقد أن من ظن أن هناك من يصنع القادة غير خالق الإنسان فقد أخطأ.. وأكثر ما يمكن أن نقول إن هناك برامج ودورات تساعد في تأهيل القادة وتعليمهم بعض الأدوات التي تساعدهم على القيادة.. وشتان ما بين صُنع الرحمن وصُنع الإنسان...
فاكس: 6509659 - okazreaders@imc.med.sa