-A +A
نجيب عصام يماني
من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن تخلص أي كتابة تتوسل التحليل أو تدعيه، أن تصل إلى نتيجة منطقية، وهي قد وضعت النتائج سلفا، وحددت غايتها قبل الشروع في عرض الأسانيد، ومناقشة الترجيحات المحتملة، فطالما أن الكاتب قد تسيج في إطار فكري محدد، ووضع غاية محددة، فإن السبيل الذي يتخذه لتمرير أجندته، التي يتوهم أنها خافية على غيره، لا يعدو أن يكون مجرد ضرب من ألاعيب، ومسلكا من مسالك «الاستغفال»، والتذاكي.. ولهذا الأمور عنده غير محتملة لأي شيء خارج عن الإطار الذي حدده، والغاية التي رسمها؛ ولهذا تصبح «عنزا وإن طارت».
ساقني إلى هذه المقدمة ما خطه الأستاذ محمد معروف الشيباني، البلاد (21415)، بعنوان «مصر بعد سقوط الطائرة»، مستعرضا حادثة الطائرة الروسية التي أسقطت في سيناء، موهما الكاتب بأن مصر قد انهارت، وأن الإرهاب قد ضربها وضرب نظامها في مقتل ولم تعد تملك من أمر البقاء الكثير، في تجن على مصر وتاريخها، ولم يجرم «داعش» وفحشه الذي اكتوى بناره العالم وليس مصر وحدها. بل ساق ترجيحاته، ومنها «إذا تأكدت المعلومات الدولية المسربة بأن سقوط الطائرة الروسية فوق سيناء جريمة مدبرة»، كلها تنعى الحال المنتظر في مصر، وتصفه بأوصاف أقل ما يستشعر منها أنها «أمنيات» لمن ظلوا يلوكون مفردات مثل «حكم العسكر»، و«النظام في مصر»، ولم يقدم أي صورة من صور الإيجاب الذي يمكن أن تجنيه مصر من مغبة هذا الحادث المأساوي.

أليس من المرجح، بل من المتوقع، أن يزيد التفاف الدول جميعا مع القيادة المصرية، كما فعل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، الذي أمر بزيادة الرحلات إلى شرم الشيخ بعد الحادث، ووقوف المملكة إلى جانب الشعب المصري وحكومته، وتحرك العالم وتعاهده من أجل هزيمة هذه الآفة الخبيثة وطردها خارج السياق التاريخي لأمتنا بإذن الله، أليس هذا الحادث ضمن الحوادث الإرهابية التي ضربت دول العالم -وآخرها فرنسا-، هل كان ذلك مدعاة للقول بأن «الإرهاب الذي ضرب مصر ونظامها في مقتل كما يدعي الكاتب»، وعليه قياسا فإن فرنسا قد زالت هيبتها وانهدمت أركانها وهزمت ديمقراطيتها.
هل كان العالم ينتظر الإرهاب ليسقط طائرة في سيناء، ليجرس مصر وقيادتها ويجردها من الأمن بمثل هذا الكلام الإنشائي.
إن جملة «الذيول» التي ساقها الكاتب في مقاله، لا علاقة لها من بعيد أو قريب بالتحليل المنطقي، والقراءة البصيرة للأحداث، وإنما هي «صيحة» نعرفها، و«أمنيات» معروفة، لا تستنكر أساس الإرهاب في مصر منذ أن جردها «السيسي» من صوت الاستعلاء وحياكة المؤامرات الذي كادت أن تغرق به أرض الكنانة، لو لا لطف الله بها وبأهلها. وإذا أخذنا كل «ذيل» من هذه «الذيول» التي أحصاها الكاتب فسنعرف المقصد من وراء المقال، فبداية يرى أن الحادث: «ضرب السياحة المترنحة منذ الثورة»، وهذا محط افتراء، فالوقائع والأرقام والجسر الجوي الذي امتد لأيام لإعادة الرعايا الأجانب إلى أوطانهم تشير إلى عكس ذلك.
مضيفا أنه «من الصعب لمصر أن تقوم لها قائمة حتى تقدم ضمانات دولية بجدارة أمنها»، ونسي أن مصر أقوى من الإرهاب ومر عليها أكثر من هذا وتجاوزته، فكيف لحادث مثل هذا أن يوقف حركة السياحة في مصر بكل الإرث من العراقة والتنظيم، ومن هي الجهات التي هي بحاجة إلى «ضمانات دولية» من مصر بجدارة أمنها، وإذا كان كل فعل إرهابي جرى على الأرض يوقف السياحة، ويجبر الدول على تقديم الضمانات؛ فإن العالم بأسره مطالب بهذه الضمانات اليوم، وليس مصر وحدها، فلغة المقال تكشف ما تستره من إرهاصات فيما يخص مصر وقيادتها، وبخاصة في ما ارتآه من أن الحادث «نزع هيبة حكم العسكر والأمنِ الداخلي الذي ظل ركنه الأساسي هو التغني بقدرته على ضبط الأمور بعد فوضى الثورة».. إن أقل ما يوصف به هذا السطر أن صاحبه متضامن مع الفعل الذي جرى، أو على أقل افتراض، غير مستنكر له؛ وإلا فأين يمكن أن نضع عبارات من شاكلة «نزع هيبة»، «حكم العسكر»، «التغني بقدرته على ضبط الأمور»، «فوضى الثورة»، فكلها عبارات ما كان ينبغي لمن يتناول حادثا بهذه الفظاعة والبشاعة أن تكون حاضرة في قاموسه وهو يسوق لنا الترجيحات ويضع أمامنا التخمينات، التي يصل بها صاحبها إلى الغاية التي يريد حين يرى أن من «ذيول الحادث» «وقوع قيادة مصر تحت ضغط دولي لا مثيل له بدائل خطيرة أحلاها أمر من العلقم (التسليم بتفتيش دولي على سلامة إجراءات أمن مطاراتها) وأقساها (تغيير سياسات تعاملها مع معارضيها جذريا)»، فهل يمكن أن يقول بذلك عاقل، أو مجرد شخص تابع الأحداث الإرهابية التي جرت في كل أصقاع الدنيا، فمصر بعد هذا الحادث برأي الكاتب محصورة إما بالضغط الدولي أو تغيير سياسات تعاملها مع معارضيها. وهنا بالتحديد تنكشف طوايا المقال، فلا ضغط دوليا ولا تفتيش على سلامة إجراءات الأمن في المطار ولا يحزنون، وإنما الأمر متعلق بـ«تغيير السياسات مع المعارضين»، فمن هم المعارضون الذين يرمي إليهم صاحب المقال وهم أساس البلاء ومصدر الإرهاب، وأي تغيير في السياسات يقترحه، وهل يصلح مع الإرهاب وأسبابه غير المجابهة بالحزم والحسم.
إن لغة هذا المقال مكشوفة النوايا، مفخخة الغرض، ونحن أحوج ما نكون إلى لم الشمل، فلم يبق في عالمنا العربي الممزق دولة تستطيع مواجهة انهياراتنا غير المملكة وامتدادها الخليجي ومصر، ومن دون ذلك أمنيات كواذب، عرفناها ونعرفها ونعرف من وراءها.