-A +A
محمد القنيـبط
قَبلَ سنوات طويلة، أدخَلَت عائلة طفلتها المُعَاقَة في مركز رعاية اجتماعية في المدينة التي يعيشون فيها، بسبب إصابتها بهشاشة شديدة جدا في العظام مع تَشَوُّه في الهيكل العظمي أدى إلى ضمور كبير في جسمها، ولكن المولى عزَّ وَجل عَوَّضَ هذه الطفلة بذكاء كبير جداً.
سَمِعَتْ عن هذه الطفلة مديرة مؤسـسـة حكومية معنية بالإعاقات بمدينة الرياض، فاستقلت الطائرة مع مختصي طب وتأهيل إلى تلك المدينة لمعاينة حالة الطفلة، حيث كان عُمر الطفلة حوالي ست سنوات.

اتفق المختصون على ضرورة نقل الطفلة إلى مقر المؤسسة في الرياض، حيث تتوفر الرعاية الطبية والتأهيلية اللازمة لمثل حالتها النادرة. ولكن كانت المفاجأة في مُعارَضَة والد الطفلة نقلها للرياض، وهو الذي تركها في مركز لا يوجد فيه أي إمكانات للعناية بحالات إعاقة بسيطة جدا، والآن يرفض مَنح فَلَذَّة كبده فرصة نادرة لمحاولة العَيش كإنسان له احترامه ومساهمته في المجتمع، إذا ما أُعطيَتْ فرصة الرعاية والتأهيل الطبي المتخصص. ولكن هذه المديرة، كعادتها طِوال إدارتها لهذه المؤسسة الإنسانية المهمة جداً، لم تستسلم لِتَعَنُّت الأب الذي لم يَزر ابنته أو يسأل عن أحوالها منذ دخولها هذا المركز البسيط منذ ولادتها تقريبا؛ فخاطبت المديرة أمير المنطقة لتطبيق الأنظمة والتعليمات الحكومية على هذه الطفلة الذكية المحرومة من حنان الوالدين والأهل أثناء تواجدها في مركز لا تتوفر فيه الرعاية الطبية المناسبة لإعاقتها الشديدة. وتحت إصرار ومتابعة المديرة تجاوبت إمارة المنطقة وأحضرت الأب، الذي تنازل عن ولاية الطفلة لهذه الجهة الحكومية المتخصصة بموجب الأنظمة الرسمية، وبالتالي إعطاء هذه الإنسانة المحرومة فرصة الحصول على الرعاية والعناية الطبية اللازمة للتعامل مع إعاقتها الشديدة.
عادت المديرة برِفقَة الطفلة إلى الرياض وأدخلتها المؤسسة المتخصصة التي تدير دفتها منذ إنشائها. وبحكم وجاهتها الاجتماعية، فتحت ملفا للطفلة في مستشفى الملك فيصل التخصصي، حيث بدأ الأطباء في تشخيص حالتها والتعامل مع إعاقتها بطريقة طبية وبالتعاون مع اختصاصيات المؤسسة ومتابعة دائمة من المديرة. بدأت حالة الطفلة الذكية تتحسن يوما بعد يوم، مقارنة بحالتها قبل وصولها الرياض، ولكنها سـتظل بحاجة دائمة لمن يحملها من وإلى الكرسي المتحرك ومساعدتها في حياتها اليومية، حيث لا تتمتع إلا بحركة بسيطة جداً في اليدين، لذلك خَصَّصَت لها المؤسسة ممرضة اختصاصية تلازمها على مدار الساعة.
كَبُرَت الطفلة، التي كانت توليها المديرة رعاية الأمومة النادرة التي لم تعرفها منذ ولادتها. وليس هذا فحسب، بل دخلت هذه الطفلة الذكية المدرسة الابتدائية التي أُنشئِت في مقر المؤسسة خصيصاً للأطفال المُعاقين نُزلاء المؤسسة. وبمتابعة لصيقة من المديرة واختصاصيات المركز، استطاعت الطفلة الحصول ليس على الشهادة الابتدائية فقط، بل حصلت على شهادة المرحلة الثانوية من مدارس تتعاون معها المؤسسة بتَفَوقٍ أَهَلَها الحصول على منحة من جامعة الأمير سلطان، ولكنها اختارت جامعة الملك سعود. تَخَرَّجَت هذه الطفلة المعجزة من كلية إدارة الأعمال، وتوظفت في إحدى المؤسسات المصرفية؛ واشترت منزلاً بالتقسيط.
هل انتهت القصة !؟ كلا، لم تَنتَهِ. فوجئ العاملون بالمركز بظهور والد الطفلة ومحاولته إعادة رعايته لها، وذلك بعد معرفته بتَحَسُّنْ وضعها المالي !؟
عندما قَصَصتْ هذه الملحَمَة الإنسانية الرائعة في أمسية «مربعانية» من إثنينية «استراحة الدكتور باسم»، رحمه الله، فُوجِئت بزميل أكاديمي يقول لقد عَاصرت قِصَّة لا تقل روعة إنسانية عن قصة الطفلة المشلولة الذكية كانت بَطَلَتَها مديرة تلك المؤسسة.
يقول الزميل الأكاديمي إن أحد أبناء عمومته البعيدين وُلِدَ في مكة المكرمة بإعاقة حركية لا يستطيع معها المشي، بل يحبو على الأرض، وأبواه فقيران جدا لم يستطيعا تقديم أي شيء له. استمر الطفل في الحبي حتى بلوغه حوالي سبع سنوات من العمر. عَلِمَت عَمَّته التي تسكن مدينة الرياض بوضعه، فأحضرته من مكة المكرمة إلى الرياض وأدخلته المؤسسة الحكومية التي تدير دفَّتها تلك المديرة الرائعة.
كالعادة، بدأت المديرة بالاهتمام الإنساني بابن عم زميلنا الأكاديمي منذ دخوله المؤسسة، حيث فتحت له ملفاً في مستشفى الملك فيصل التخصصي الذي أجرى له عدة عمليات جراحية مَكَّنَت هذا الطفل من السير على عكازات. ويُضيف زميلنا الأكاديمي قائلا بأنه كان في أحيان كثيرة يأخذ ابن عمه من المؤسسة في نهاية الأسبوع لإيصاله لمنزل عمته ليقضي عندها عطلة نهاية الأسبوع، ثم يُعيده للمركز مغرب يوم الجمعة. وقد لَفَتَ نظر زميلنا الأكاديمي الذي كان آنذاك طالباً بجامعة الملك سعود، أنَّ ابن عَمّه دائم الحديث عن «ماما مَشَاعِلْ» وبابا محمد، ولم يعرف حينها لمـاذا !؟
انقَطَعَت الأخبار سنوات طويلة بين أبناء العم بسبب سفر زميلنا الأكاديمي إلى بريطانيا لمواصلة دراسته العليا. وذات يوم، جاء سكرتير زميلنا الأكاديمي الذي كان حينها وكيلاً لكلية علوم الأغذية والزراعة بجامعة الملك سعود، يُبلِغه بوجود شاب يريد مقابلته. وفوجئ زميلنا الأكاديمي بأن هذا الشاب هو ابن عمه المعاق جاء يمشي على عكازين لُيسلِّم عليه، ويُبلِغه أنه حصل على بكالوريوس فيزياء من جامعة أم القرى ويعمل الآن فني مختبر بنفس الجامعة !!
والقصص الإنسانية كثيرة عن هذه المديرة الرائعة، والأكثر ألما القصص التي تَحكي تأثير غيابها عن تلك المؤسسة وبقية المؤسسات ذات العلاقة بالإعاقات. فتقول إحدى الموظفات التي عَمِلَت تحت إدارة تلك المديرة لأكثر من عشر سنوات، إن المؤسسة عانت الأمَرَّين بعد مغادرة تلك المديرة الرائعة. فقد استسلمت إدارة المؤسسة الجديدة للتعليمات البيروقراطية البائسة، واختفت الروح الإنسانية القتالية لإدارة المؤسسة للدفاع عن حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة المتواجدين داخل وخارج المؤسسة. وتستشهد هذه الموظفة بحادثة مؤلمة، حيث دخلت طفلة صغيرة وُلِدَت بدون أطراف وبشلل رباعي مع ضمور شديد بالجسم، ولم يتبقَ لها سوى قدرتها على الكلام ببطء شديد. ومع ذلك، وبمساعدة ورعاية المختصين استطاعت استخدام الآي باد للرسم بواسطة قلم خاص تضعه في فمها، حيث رسمت لوحات فنية رائعة. وحينما أراد المركز عَرضْ لوحاتها باسمها في معرض فنون، اعترض والدها بشدة، وهددهم برفع قضية عليهم في المحكمة إنْ هُم قاموا بذلك. وللأسف، استسلمت إدارة المركز لهذا التهديد غير الإنساني من أب لا يزور ابنته إلا كل ستة أشهر، على أحسن الأحوال. تقول هذه الموظفة لو أن تلك المديرة الرائعة كانت لا تزال موجودة، لقالت للأب العاق: «أعلى ما في خَيلِك اركَبه»، ولذهبت بنفسها للمحكمة للترافع عن هذه البنت الموهوبة التي تعاني من عقوق والدها، وحرمانه لها من الفوز ببعض التقدير المعنوي !!
واقع الحال الذي لا يخفى على المُطلعين، يتمثل في سوء وضع مؤسسات التأهيل الطبي والرعاية الاجتماعية في المملكة منذ بدء عمل هذه المؤسسات، والحديث عن أسباب هذا الوضع المُتَرَدي طويل ومؤلم جدا، ولكن أعتقد أن من أهم الأسباب تركيز الأجهزة الحكومية الصحية على الأمور الطبية التقليدية من مستشفيات ومستوصفات مع إهمال كبير جداً لجانب إعادة التأهيل للمُعاقين، سواءً كانت الإعاقة من الولادة، مثل حالات الشلل المختلفة وهشاشة العظام الشديدة والضمور الجسدي أو حالات المتلازمات (داون، التَّوَحد، ...)، أو كانت الإعاقات بسبب الحوادث. والدليل على هذه الحقيقة المؤلمة أنَّ أكبر وأشهر مركز إعادة تأهيل في المملكة لم تؤسِّـسـه أو تُساهم في تأسيسه أيٍ من المؤسسات الصحية الحكومية بلا استثناء؛ تلكم هي مدينة الأمير سلطان الإنسانية، رَحِمَ الله مؤسِّـسها وأسكَنَه فسيح جنانه. السبب الثاني، عدم وجود رؤية واضحة للأجهزة الحكومية ذات العلاقة بموضوع الإعاقة والرعاية الاجتماعية، خاصة وزارات الصحة والشؤون الاجتماعية والمالية، وقبل ذلك افتقار هذه الأجهزة الحكومية لروح العمل والتخطيط الجماعي الحالي والمستقبلي لهذه القضية؛ ولكن هذه هي الحال في غالبية أجهزتنا الحكومية. السبب الثالث هو السيرة الإدارية الطويلة البائسة لوزارة الشؤون الاجتماعية التي أُنيط بها العناية بذوي الإعاقات، التي فَشَـلَت عَبر السنين في استقطاب المؤهلين في مواضيع إعادة التأهيل والعمل الاجتماعي من خارج الوزارة أو تطفيش من يُبدِع فيه من داخل الوزارة، كما هي الحال مع المديرة الرائعة التي تقاعدت مُبكِّراً قبل حوالي عشر سنوات، دون أي تكريم من الوزارة التي عَمِلَت تحت مظلتها ثلاثين سنة، ناهيك عن الاستفادة من خبرتها الطويلة في هذا المجال الإنساني.
ولكن -يا مولانا- من هي «ماما مَشَاعِلْ»، ومن هو بابا محمد !؟
«ماما مَشَاعِلْ» هي السيدة الفاضلة مِشاعِل بنت مساعد بن عبدالله السديري، المديرة السابقة لمؤسـسة رعاية الأطفال المشلولين بالرياض، وهي المؤسسة التي دارت فيها الأحداث السابقة في هذا المقال، وكانت «ماما مَشَاعِلْ» مع هذه المؤسسة منذ إنشائها قبل أكثر من ثلاثين سنة. وقد كان أطفال المؤسسة إناثاً وذكوراً ينادونها دائماً «ماما مَشَاعِلْ»، كما قال لنا الزميل الأكاديمي نقلاً عن ابن عمه، لأن غالبية هؤلاء الأطفال فقدوا حنان الأم بسبب تواجدهم الدائم في المؤسسة، فعَوَّضهم الله بحنان سيدة فاضلة وفريق عمل كانوا يعملون عملا إنسانيا رائعا، رغم العوائق البيروقراطية والمالية، ولا يرجون به سوى رضا المولى عز وجل. ليس هذا فحسب، بل كانت «ماما مَشَاعِلْ» تقوم بزيارات مفاجئة للمؤسسة بعد منتصف الليل للتأكد من التزام المناوبين والمختصين بتواجدهم وعنايتهم بهؤلاء الأطفال المحرومين من أشياء كثيرة جداً.
فكما نرى، فإن تفاني «ماما مَشَاعِلْ» في وظيفتها البيروقراطية لأكثر من ثلاثين سنة لم يكن بهدف البحث عن الشهُرة أو الحصول على وجاهة اجتماعية، فهذه الأهداف الدنيوية كانت لديها قبل دخولها ميدان هذا العمل الإنساني الرائع. ولكن كان هَمَّها الأول والأخير البحث عن رضا الله عَبر إدخال الابتسامة على شِـفاه من حُرِموا منها وَزَرع الأمل في نفوسِهِم بوجود مُستَقبَل أكثر إشراقاً.
شُكراً ... شُكراً ... شُكراً ... «ماما مَشَاعِلْ».
ولكن، مهلاً، من هو «بابا محمد» !؟ بابا محمد، كما يقول الزميل الأكاديمي، كان حارس مَقرّ مؤسـسـة الأطفال المشلولين بالرياض في حي الملز، حين كان يأخذ ابن عمه من مقر المؤسسة في إجازة نهاية الأسبوع. حيث كان يسمع الأطفال ينادونه: بابا محمد، لأن كثيراً من هؤلاء الأطفال يفتقدون حنان الأب الذي لا يزورهم أو غير موجود !!
* أكاديمي