-A +A
عبدالله المدني (المنامة)
الكثير من الشخصيات التي اضطلعت بأدوار كبيرة وقامت بجهود عظيمة لصالح المملكة في بواكير تأسيسها وتوحيد أقاليمها على يد المغفور له الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن، يكادون لا يذكرون، ولا تعرف الناشئة عنهم كثيرا.
ومن هنا كان كتاب الصحافي والمؤرخ السعودي الأستاذ محمد عبدالرزاق القشعمي الموسوم بـ«معتمدو الملك عبدالعزيز ووكلاؤه في الخارج»، والصادر عن دار الانتشار العربي في بيروت في عام 2015 مهما، لأنه يتحدث عما أهمله التاريخ من أحداث وشخصيات. وقبل أن نسلط الضوء على جوانب من حياة وأعمال وإسهامات شخصية من تلك الشخصيات العطرة، لابد من الإشارة إلى حقيقة قد يجهلها الكثيرون وهي أنه في الفترة السابقة لتأسيس المملكة العربية السعودية، لم يكن للملك المؤسس سفارات أو قناصل أو دبلوماسيون في الخارج.



كان الموجود فقط هو الشعبة السياسية في الديوان الملكي التي تأسست في أواخر العقد الثاني من القرن العشرين للمساعدة في التعامل مع بحر من الوثائق والمراسلات والاتفاقيات، فصارت بمثابة «وزارة خارجية» مصغرة متنقلة مع الملك أينما ذهب، يساندها لجهة متابعة الأخبار ورصد المعلومات ما عرف بـ«مجلس المستشارين»، وذلك طبقا لما ورد على لسان المؤرخ والإعلامي السعودي الدكتور عبدالرحمن الشبيلي في محاضرة ألقاها بالمجمعة بمناسبة اليوم الوطني في الـ29/9/2013. علما بأن أول من تولى رئاسة الشعبة السياسية المذكورة كان السوري «يوسف ياسين» المولود في اللاذقية في عام 1892 والمتوفى في الدمام في عام 1962.
من الشخصيات التي تستحق تسليط الضوء على سيرتها، اعتمادا على ما ورد في كتاب القشعمي وما ورد في مصادر متنوعة أخرى، المرحوم الشيخ عبدالله بن محمد الفوزان وكيل الملك المؤسس في الهند، والذي أبصر النور في مدينة عنيزة في عام 1861، وتوفي في مدينة «بمبي» (مومباي) الهندية في عام 1960 عن عمر ناهز الـ100 عام، علما بأنه سبق الفوزان في هذه الوظيفة التاجر النجدي المعروف الشيخ ابراهيم بن عبدالله الفضل وأخوه صالح بن عبدالله الفضل.
كانت هناك شعبة سياسية ملحقة بالديوان الملكي يساندها مجلس المستشارين، لكن هذا لم يكن كافيا في نظر الملك الطموح فكان قرار جلالته بأن يتخذ من بعض التجار النجديين المستقرين في بعض البلاد العربية والأجنبية منذ أزمان طويلة، وممن عرفوا بالأمانة والصدق والنزاهة والسيرة العطرة والمكانة الاجتماعية الرفيعة، وكلاء له يمثلونه في تلك الديار ويتفاوضون باسمه مع الجهات المعنية عند حدوث أي إشكالات.
وهكذا اتخذ جلالته من الشيخ عبدالرحمن بن حسن بن عبدالله القصيبي وكيلا له في البحرين، ومن عبدالله بن حمد النفيسي وكيلا له في الكويت، ومن عبداللطيف بن إبراهيم المنديل وكيلا له في العراق، ومن رشيد بن ناصر بن ليلى وكيلا له في سوريا، ومن الشيخ فوزان السابق وكيلا له في مصر، إضافة إلى الشيخ عبدالله بن محمد الفوزان وكيلا في الهند على نحو ما سلف.
وعائلة الفوزان هي من الأسر النجدية المشهورة المنتشرة في المملكة العربية السعودية إضافة إلى دولة الكويت (طبقا لأحد المصادر هاجرت أسرة الفوزان من قرية جلاجل النجدية إلى الكويت في بداية القرن الـ19 فسكنت على مقربة من مكان سكنى الأسر النجدية الأخرى كآل العبدالجليل والهارون والفرج والفرحان في حي الفرج، وكان مؤسسها هو فوزان الذي أنجب إبراهيم).
يقول يعقوب يوسف الإبراهيم في الصفحة 83 وما يليها من كتابه «من الشراع إلى البخار.. قصة أول شركة ملاحة بحرية عربية»، الصادر عن دار الربيعان للنشر بالكويت في عام 2003، إن محمد بن عبدالله الفوزان كان يتاجر بين نجد والعراق والهند، وإن ولده الأكبر عبدالله بعدما نشأ في القصيم وتزوج فيها من ابنة عمه، غادرها إلى الهند بصحبة والده وهو في سن الـ17، فاستقر هناك ليعمل بالتجارة، حيث صار يزود والده في نجد بكل ما كان يحتاجه من سلع وبضائع هندية، وبالتالي جنب والده مشقة السفر، وعناء الانتقال برا إلى سواحل الخليج ومن ثم بحرا إلى الهند.
أما القشعمي فقد تحدث عن نشاط الفوزان التجاري، فذكر في الصفحة 72 من كتابه آنف الذكر، استنادا إلى معلومات جمعها من حفيده «طارق علي الفوزان» أن الفوزان في الهند كان يستورد من العراق التمور ويصدر إلى نجد جميع أنواع المؤن وما يطلبه التجار المتعاملون معه، مضيفا: «من أبرز التجار الذين تعامل معهم في الهند أو الجزيرة العربية آل الفضل، والقاضي، والبسام، وآل السليمان، والغانم، وآل زينل (علي رضا)، كما تعامل مع علي حمود الشايع وحسين بن عيسى (القناعي) وكلاء آل الصباح من الكويت، وجاسم الزياني من البحرين، وعبدالمنعم الزواوي من عمان».
وطبقا للقشعمي فإن الفوزان ربطته علاقة وثيقة بالملك عبدالعزيز قوامها المحبة والإخلاص والوفاء، بل نذر نفسه وماله لخدمة الملك. ومن آيات ذلك أنه كان ينتصر للملك في مواجهة الهنود المتأثرين بالبدع والخزعبلات ممن كانوا ينظرون إلى عبدالعزيز كـ«ملك وهابي». وكان يغضب لمضايقة الملك بأي طلبات بدليل أنه غضب ذات مرة على أحد أولاده لمجرد أن اقترح عليه أن يحل ضائقة مالية كان يعاني منها بمطالبة الملك عبدالعزيز بسداد ما عليه من مستحقات ناجمة عن أوامر شراء واستيراد سابقة.
أما الملك عبدالعزيز فقد كان بدوره حريصا على التواصل كتابيا مع الفوزان، يوصيه على ما يريد من الديار الهندية، ويستفسر منه عن أحوالها وتطوراتها وعلاقات طوائفها المختلفة ونظرتهم إليه، خصوصا وأن الهند كانت وقتذاك حاضنة لأكبر تكتل بشري مسلم في العالم، وبالتالي كانت مصدرا لموارد مالية كبيرة في صورة أموال متأتية من موسم الحج. هذا ناهيك عن أن الهند كانت حينذاك أيضا مصدرا لا غنى عنه لاستيراد سلع وبضائع كثيرة على رأسها المواد الغذائية.
هذا الحرص من جانب الملك عبدالعزيز على أخبار الهند، وتحديدا أخبار واحتياجات طائفتها المسلمة الضخمة، دفع الفوزان إلى بذل جهود كبيرة لجهة التواصل الدائم مع زعماء الهند المسلمين وغير المسلمين من أجل أن يشرح لهم أهداف الملك عبدالعزيز في شبه الجزيرة العربية وطبيعة منهجه السياسي والديني، كما أنه راح يتلمس بنفسه احتياجات مسلمي شبه القارة الهندية ليعرضها على جلالة الملك عبدالعزيز في نجد.
ومن بين هذه الاحتياجات كان تسهيل عملية أدائهم لفريضة الحج، فقام الفوزان بتذليل كل العقبات، ليس أمام الحجاج الهنود فحسب وإنما أيضا أمام حجاج الصين ممن كانوا يصلون الى الهند في طريقهم إلى الحجاز دون دراية بأنظمة الحصول مسبقا على أذونات الدخول إلى الأراضي الحجازية.
وجملة القول إن الفوزان استطاع خلال الفترة التي عمل فيها وكيلا للملك المؤسس في الهند أن يبني لنفسه شعبية في الأوساط الهندية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وأن ينقل للمسؤولين في بلده صورة أمينة وصادقة عن أحوال الهند وشعبها، وأن يعرض بدوره للمسؤولين الهنود صورة واضحة ودقيقة عن سياسات وتوجهات بلده.
وقد ارتأى الملك عبدالعزيز، في أعقاب تأسيس وزارة الخارجية في عام 1930 أي قبل نحو عامين من إطلاق اسم المملكة العربية السعودية على البلاد النجدية والحجازية وملحقاتها، أن يحافظ على شعبية آل فوزان لدى الهنود خدمة لسياسات بلاده، فقام جلالته بإصدار مرسوم ملكي عين بموجبه الابن الرابع للفوزان وهو الشيخ يوسف بن عبدالله بن محمد الفوزان كأول سفير سعودي في نيودلهي، خصوصا أن يوسف كان من مواليد الهند ومطلعا على أحوالها وثقافتها ويجيد الهندية، ناهيك عن أنه كان ملما بالعمل الدبلوماسي بسبب عمله السابق كأول قنصل سعودي عام في فلسطين بعيد افتتاح القنصلية السعودية هناك في السادس من أبريل 1941، إضافة إلى أنه تولى أيضا قيادة أول قنصلية سعودية في طهران.
ومن هنا لم يكن غريبا أن يحظى الفوزان بإعجاب وإشادة زعيم استقلال الهند وأول وأشهر رؤساء حكوماتها «جواهر لال نهرو». وفي هذا السياق يخبرنا القشعمي في كتابه آنف الذكر (هامش الصفحة 70) أن نهرو حينما زار الرياض لأول وآخر مرة في عام 1956 بدعوة من المغفور له الملك سعود الأول قال للمغفور له الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز (كان وقتها رئيسا لمجلس الوزراء ووزيرا للخارجية): «خذوا أبو الكلام آزاد -وزير التعليم والثقافة الهندي- لأنه من مواليد مكة المكرمة، وأعطونا يوسف بن عبدالله الفوزان لأنه من مواليد الهند».
وعن ذريته يخبرنا القشعمي في كتابه وأيضا في مقاله سالفي الذكر، أن الفوزان أنجب ستة من الأولاد، وأربعا من البنات. أما الأولاد فهم: خالد وعبدالعزيز ومحمد (جميعهم من رجال الأعمال في الكويت التي توفوا ودفنوا بها)، ويوسف (وهو متوفى وكان قد عمل سفيرا للمملكة في الهند وإيران وإسبانيا)، وعلي (وهو يقيم حاليا في الكويت، وكان موظفا في وزارة الخارجية السعودية ثم شغل مناصب دبلوماسية في السفارات المملكة في الهند وأفغانستان وماليزيا ولبنان)، وعبدالوهاب الذي توفي صغيرا دون أن يتزوج أو ينجب.
أما الإناث فهن: رقية التي تزوجت في الهند من رجل الأعمال الكويتي محمد المرزوق وقد توفاها الله، وعائشة التي تزوجت من رجل الأعمال الكويتي في الهند صالح العلي الشايع، ومضاوي التي تزوجت رجل أعمال كويتي آخر كان مقيما في الهند هو سليمان الهارون، ثم أمينة التي لم تتزوج.

* أستاذ في العلاقات الدولية متخصص في الشأن الآسيوي.

داعم الابتعاث منذ البدايات

يتعرض علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر لجانب آخر من جوانب أعمال الشيخ عبدالله الفوزان في الهند، وذلك في حديث له عن البعثات السعودية الأولى للدراسة في مصر نشرته مجلة العرب (العددان الثالث والرابع، يونيو ويوليو 1982)، حيث وصف الجاسر الشيخ الفوزان بأنه كان من أشهر تجار العرب في الهند، وتحدث عن علاقاته القوية بالملك عبدالعزيز، ثم ذكر أن الفوزان ممن كان لهم أثر في ابتعاث بعض الشباب السعودي، مشيرا في هذا السياق تحديدا إلى محمد وعبدالله السليمان الحمدان اللذين كانا يعملان عنده في مكتبه التجاري في «بمبي»، حيث أرسل أولا محمدا للعمل في الديوان الملكي السعودي بناء على طلب تلقاه من الملك عبدالعزيز، وحينما توفي هذا أرسل أخيه عبدالله الذي صار وزير مالية المملكة الأشهر من بعد فترة قصيرة من العمل في الديوان الملكي.
وكان وزير المالية الأول في تاريخ المملكة المرحوم الشيخ عبدالله السليمان الحمدان قد أكد ما ذكره الجاسر في مقال كتبه لصحيفة البلاد السعودية (29/11/1950) عن حياته، وأشار إليه القشعمي في كتابه (الصفحة 71). ومما ذكره الوزير عبدالله السليمان أنه غادر مسقط رأسه في عنيزة متجها إلى البصرة حيث كان يقيم أخوه محمد، وأن الأخير أرسله للعمل لدى التاجر الشيخ عبدالله الفوزان في «بمبي» بالهند، فتولى الأخير رعايته وتوجيهه، وتشجيعه على العلم، ووظفه براتب شهري، وعامله كواحد من أبنائه. ومما يجدر بنا ذكره في هذا المقام أن عبدالله السليمان، بعد أن تعلم شيئا من أصول التجارة ومعاملاتها في الهند على يد الفوزان، قرر أن يجرب حظه في التجارة فغادر «بمبي» إلى البحرين التي أسس فيها -بمساعدة شقيقه الأصغر حمد- محلا تجاريا صغيرا لم يحقق من خلاله نجاحا فأغلقه ورحل إلى السعودية حيث عمل في الديوان الملكي بسبب إجادته للغة الإنجليزية التي تعلمها في الهند.
ومن صفات الفوزان -عدا الكرم الذي نجد تجلياته في توفيره لمضافة يسكن بها كل من يأتي إلى الهند من أبناء المملكة والخليج، وعدا المروءة والتقوى والتواضع والذاكرة الحديدية- أنه كان يحب نجدا بصفة عامة، ومسقط رأسه عنيزة بصفة خاصة حبا جما، ولا يرضى أن ينالهما أحد بسوء حتى من باب المزاح.


.. وترجل «أمين السر» قبل 55 عاماً


في عام 1960 أسلم الفوزان الروح لباريها في المدينة الهندية التي عشقها وعاش فيها أجمل سنوات حياته، ألا وهي مدينة «بمبي» عاصمة الهند التجارية وملتقى تجار الخليج والجزيرة العربية، التي دفن فيها. وقد أظهرت وفاته بالدليل القاطع مدى ما كان يتمتع به من شعبية في الهند. إذ تبارى الهنود من مختلف الأديان والمذاهب، ومن شتى المدن والقرى الهندية في المشاركة في تشييعه إلى مثواه، بل إن المجلس البلدي لمدينة «بمبي» عقد جلسة خاصة لتأبينه والتحدث عن مآثره وخصاله.
إلى ذلك صدرت كبريات الصحف الهندية الناطقة بالإنجليزية وهي تنعى الفقيد وتتحدث عن مواقفه لجهة الدفاع عن القضايا العربية والإسلامية. أما في السعودية -فطبقا لما أورده القشعمي في كتابه (الصفحتان 74، 75)، وفي مقال له في المجلة العربية (العدد 293 سبتمبر 2001)- فإن جريدة القصيم نشرت في عددها الرابع والثلاثين ليوم 9/3/1380 مقالا لمراسلها في نيودلهي المرحوم حسين بن محمد آل سليمان -كان في الوقت نفسه يعمل في الملحقية الثقافية في السفارة السعودية بنيودلهي، وقضى نحبه هناك غيلة في عام 1969- كان عنوانه الرئيسي «دموع وأشجان»، وعنوانه الفرعي «محمد بن عبدالله الفوزان.. المواطن العربي الذي احتشد في جنازته ألوف المشيعين من جميع الملل والنحل». ويلاحظ هنا أن الكاتب أخطأ في اسم الرجل، فقد سماه محمد بن عبدالله بدلا من عبدالله بن محمد.
من أشهر الذين قاموا برثاء الفوزان شعرا الشاعر السوري الكبير عمر أبوريشة الذي عرف الرجل عن كثب وكان وقت وفاته سفيرا للجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا) في نيودلهي. ويقال إن مجموع أبيات قصيدة أبو ريشة الرثائية في الفوزان بلغ 1379 بيتا، أورد القشعمي منها مقطعين.