-A +A
أحلام محمد علاقي
زرت صديقة عادت بعدما كانت مبتعثة في دولة أوروبية. وبينما كانت تساعد ابنها الصغير في الواجبات، إذا به فجأة يقذف بالكتاب ويرمي نفسه أرضا في نحيب متواصل ويقول:
"اتركوني، أنا تعبان ولا أريد إلا أن أموت!"

صدمت جدا وسألته "ولم تقول ذلك وأنت في السابعة من عمرك؟ ماذا تعرف عن الموت؟" قال "أعرف أنني لن أشعر بشيء وسوف أرتاح للأبد!"
قلت له "وما الذي يغضبك لدرجة كره الحياة؟" قال: "وما الذي يفرح في حياتي؟ أنام لأقوم وأذهب للمدرسة وأحمل حقيبة ثقيلة والمعلمة عصبية وممنوع اللعب بساحة المرجوحات ويقولون اتركوها نظيفة، ودرس الرياضة مجرد طابور وتنفيذ للأوامر. اليوم المدرسي طويل. أعود بعده للبيت فبدلا من أن ألعب مثل زمان، أجد نفسي الآن آكل على صراخ أمي تستعجلني لنبدأ في الواجبات. فمن طاولة الطعام الى طاولة الدرس، إلى الشاور والبيجاما ثم العشاء ثم أجد نفسي كالروبوت مدفوعا للسرير، لماذا؟ لأصحو اليوم الثاني وتتكرر الحلقة. لا آيباد ولا لعب ولا تسلية، هذه الحياة؟".
"أيش أهم حياتي أو المدرسة؟" سألنا الطفل وهو يصرخ "أين الحديقة التي كنت أخرج يوميا لألعب بها وأين درس الرياضة مع مستر آندرو الذي يتركنا نقفز ونلعب الكرة وهنا أخذ يبكي بمرارة". ثم أكمل: "وحتى أمي هذه ليست أمي! صارت تصرخ دائما بسبب المدرسة والواجبات والامتحانات، أنا أكره المدرسة اللعينة هذه التي حولت أمي لشخص آخر".
خرجت من بيتها مصدومة: لم يخلق نظامنا التعليمي التوتر في المدرسة والمنزل؟ لطفل عمره سبع سنوات؟ ما فائدة عشرات الأسطر من "الحفظ" المفروض على الصغار؟ والواجبات الكثيرة التي ترهق أصابعهم الصغيرة وتقرفهم؟ والتعامل التعنيفي غير الحضاري مع الأطفال في المدارس؟ ولم لا يلعب الطفل في المدرسة، بل ويخصص لذلك وقت كاف متناسب مع عمر الطفل، فالتعلم واكتساب الخبرات عن طريق اللعب من أهم الأمور ولم تكتشفه فقط النظريات التعليمية الحديثة بل اكتشفه أجدادنا بالفطرة. ولم يفرض النظام التعليمي كمية واجبات مهولة على الطلاب مما يضيف عبئا على الأسرة. فيوجب على الأم التفرغ للتدريس. وهل كل أم تستطيع ذلك؟ أم هل كل طفل محظوظ بأن تكون له أم أصلا؟ هناك الكثيرون ممن لا يعيشون مع أمهم مثل الأيتام أو من يعيشون مع زوجة أب قد تهتم أو لا تهتم بهم. ولم أصلا يتوجب على الأم أن تقوم بدور المعلم؟ فيخلق ذلك الطاقة السلبية في المنزل.
ثقافة أن تتفرغ الأم لعمل الواجبات مع الأطفال أثبتت عدم جدواها في العملية التعليمية الحديثة بجميع الدول المتقدمة.
ولا داعي أن ننظر للغرب فهذه أيضا ثقافة دخيلة علينا.
انظروا إلى الكثير من أجدادنا في هذا البلد الطيب، لم يكن بعضهم يعرف القراءة أو الكتابة، ولكنهم ربوا أجيالا استثنائية قامت عليها نهضة البلد وقدمت ألمع الأسماء في جميع المجالات من طب وإدارة وصناعة وتجارة وعلم وأدب وسياسة ونفط وغير ذلك. أجيال الرواد لم تدرسهم أمهاتهم ولكنهم أصبحوا رجالا ونساء استثنائيين! لم يكن أحد يخاف عليهم إن قفزوا من سور أو تسلقوا شجرة وكانوا يقعون ويتعلمون في مدرسة الحياة، عاشوا في أجواء هدوء وإيجابية أسرية. سألت والدي يوما عن المدرسة في أيامه فقال "كنا نحب أن نذهب للمدرسة!" قلت له كيف ذلك وأنا سمعت أنهم كانوا يضربون الأطفال، قال "نعم ولكن كان المعلم يضربنا ضرب الوالد لابنه ولمصلحتنا فلم نكن نغضب ولم يغضب أهالينا، وكان لدينا مساحة كبيرة للعب الحر وكان معلمونا يدعمون ثقافتنا وقراءتنا خارج المنهج ويساعدونا في ذلك ويتقاسمون الكتب معنا". وتعجبت.
وأنا من تجربتي أؤكد بأن معلومات والدي التي تلقاها بالمدرسة درست له بطريقة أفضل بكثير مما تلقيت أنا بعد عقود كثيرة من الزمان. فلا أسأله سؤالا عن لغة عربية أو تاريخ أو علوم إلا وأجده يذكر التفاصيل. بينما نسيتها أنا ممن درس بعده وفي مدارس خاصة مجهزة بمعامل حديثة. فالمخرجات التعليمية وهي التي تحكم نجاح العلمية التعليمية لديه أفضل بكثير مما هي لدي. ويبدو أن الوضع يتدهور مع الزمن لدرجة أن الطفل اليوم يتمنى الموت كآبة.
رفقا بأطفالنا يا مدارس!