-A +A
أحلام محمد علاقي
كثر الحديث أخيراً عن الأمانة العلمية في المدارس والجامعات حول العالم، وتنافس المعلمون والأساتذة الجامعيون في توضيح أخطار الغش العلمي أو ما يسمى بالبليجاريزم (plagiarism) ومكافحته، وهو يشمل جميع أساليب الغش العلمي من نقل للمعلومات دون توثيق مصادرها وغيره.
فهدف تخريج الطالب من المدرسة، أو الجامعة خاصة، إعداده ليس فقط أكاديميا وإنما شخصيا كفرد متحضر مستعد للتعايش مع عصره. وبما أننا في القرن 21 فنحن لا نتطلع لتطوير القدرات القرائية والكتابية للمتخرجين فقط (ولو أنها تعاني أحيانا)، وإنما تتطلع مخرجات التعليم لإعداد مخترعين ورواد ومصممين ومبدعين ومبتكرين بشتى المجالات.

إن الجاهل الآن ليس من لا يقرأ أو يكتب، وإنما من لا يجيد التفكير الخلاق والابتكاري والتحليلي والمنطقي والإيجابي، ويرفض التباين والاعتراف بالخطأ ولا يرى من العالم إلا أفقه الضيق.
زرت يوما جامعة أوروبية لرؤية بروفيسور شهير لبحث معلومة معينة، فأرشدني طالب لمكتب، رأيت فيه شخصا مسنا جالسا يشبه إينشتاين بشعره الفضي، بملابس تفضح سنوات من الاستهلاك. ظننت بجهلي أنه موظف بسيط، ولكنني فوجئت بأنه البروفيسور الشهير وصعقت أكثر حينما قام مرحبا بي وصنع لي كوبا من القهوة الساخنة بنفسه قدمها لي بيده المجعدة المرتجفة. خجلت منه وأكبرت صنيعه ورأيت بعيني نتاج العلم في تهذيب الخلق والتواضع. فللأسف في بعض مجتمعاتنا نرى معيدا مبتدئا في الكادر الجامعي يحدث الطلاب بتأفف وأنفة وكأنه أرشميدس زمانه.
المتعلم حقا لن يحمل شهادته في إطار ليعرضها على المارة، ولكن الجميع سيرى أثر العلم عليه خلقا وتواضعا وذكاء وإيجابية وتحضرا.
فالجامعات مثلا ــ ليست مجرد محطة علمية أخيرة ــ تأتي بعدها الوظيفة التقليدية للشاب أو الزواج للفتاة والجلوس بالمنزل. هذا السيناريو لا يمكن قبوله اليوم! فالجامعات يا سيداتي وسادتي عبارة عن جسر بين حياة المدرسة واستقبال المعلومات واسترجاعها وترديدها، وبين الحياة الحقيقية في الكادر العملي والمتميزة بخلق المعلومات الجديدة وسد الثغرات البحثية والإنتاج والابتكار وتحليل المشاكل لإيجاد الحلول. التعليم الأكاديمي يحضر الإنسان ليصبح جزءا من القوى العاملة ومن الثروة الوطنية والاقتصادية والفكرية لبلاده، خاصة ونحن الآن نتحدث عن تنويع مصادر الدخل القومي والابتعاد عن الاعتماد على النفط وغيره من الموارد القابلة للنضوب. فالاستثمار في القوى البشرية أعظم أنواع الاستثمار وأكثرها خلودا وأضمنها مردودا.
وحتى إن اختارت الفتيات التفرغ للزواج أو الأطفال بعدها، فمخرجات التعليم يتوجب أن تساهم في تغيير وتطوير شخصيتهن ونظرتهن للعالم للأبد، مما يساهم بتطوير المجتمع بأسره. فالأمهات المتحضرات المسؤولات يربين أجيالا تتطلع للتميز الذي لا يمكن أن يأتي بالحفظ أو بالنقل الأعمى أو الغش.
حينما كنا طلابا، رأينا من يشترون الأبحاث بالمال، وكان منظرا محزنا للغاية أن نراهم يبيعون فرصة التعلم بدراهم معدودة يبخسون بها أنفسهم. أذكر فتاة منهم كانت تردد بأنها لن تعذب نفسها فآخرتها الزواج والأمومة وتعليق الشهادة على حائط المطبخ! ألا تعرف أن الأم مدرسة! أنسيت أنها مسؤولة كأم مسؤولية كبرى لإعداد جيل كامل؟ أنريد جيلا من المدلسين والمحتالين والاتكاليين والتنابل؟ أنريد أطفالا يستسهلون «الغش» ويكبرون بهذه العقلية فيهربون من الدوام ويكذبون على مدرائهم ويسرقون مجهودات غيرهم في العمل وينسبونها لأنفسهم في تكملة مشينة لتقاليد توارثوها بتساهل المجتمع، ومارسوها في المدراس والجامعات بلا خسائر فادحة، فتبنوها كطريقة حياة؟
لا يا أصدقائي. هذه مسؤولية وأمانة أمام الله. وهذه نهضة بلادنا ومستقبلنا، وهذه صورتنا أمام أنفسنا والمجتمع العالمي. فلم ندع الآخرين يتفوقون علينا ولدينا جميع مقومات النجاح؟
قبل أن نعلم صغارنا الأمانة العلمية ربما يتوجب أن نمارس نحن ثقافة الأمانة ليس في العلم فقط وإنما كأسلوب حياة.