لا غرابة أن يشعر المرء بدفء وطنه وهو يتنقل بين ربوعه في أمن وأمان، لاسيما إن كان وطنا مترامي الأطراف كالمملكة العربية السعودية، حيث لا وحشة للمكان أو الإنسان، بل الطمأنينة في كل المساحة الشاسعة، التي يتقاسمها الأمن والاستقرار والتنمية.. رغما عن تحديات الطبيعة. مظاهر وصور أخرى يمكن أن ترسم في وجدانك الإحساس بالوطن، كرؤية حراس الحدود وهم على الثغور، التي تبعث الاطمئنان وتذكي مشاعر الفخر والاعتزاز بالوطن في كل الظروف. ها أنا أحط الرحال في محافظة عرعر حاضرة منطقة الحدود الشمالية، لأرصد من جديد، مآثر المرابطين على حدودنا، بعد أن فرغت للتو من نشر سلسلة حلقات ليوميات المواطنين ومنسوبي قواتنا المسلحة في القرى والمناطق الحدودية التابعة لمنطقة جازان، الذين ما زالوا يسطرون أروع ملاحم التضحية عن الدين والوطن. كحالهم اليوم في حدودنا الشمالية، التي لا تزال تنعم بفضل من الله بالأمن والاستقرار، رغم الاضطرابات التي عاشتها وتعيشها كثير من دول الأقليم.
نقطة انطلاق
تعد قيادة حرس الحدود بالمنطقة الشمالية منظومة عملية وتعليمية عالية التقنية، إلى جانب ما يحتويه مقرها من مرافق ثقافية ورياضية واجتماعية، ومراكز تدريب.
كما يتضمن المقر غرفة للقيادة والسيطرة تشرف على كامل المراكز الحدودية مع العراق، إلى جانب آليات سريعة متطورة، وفصول دراسية ومسرح ومقر للسكن والإعاشة للطلاب المتدربين.
الولوج لمقر قيادة حرس الحدود في عرعر يحتاج لكتابة العديد من الحلقات، لاسيما عن حماسة الطلاب المتدربين والمستجدين في العمل، وعن الإمكانيات التي وفرت لهم لتأهيلهم للعمل بقطاعات حرس الحدود.
في مقر قيادة حرس الحدود بعرعر، كانت هناك الكثير من المشاهد المؤثرة التي تزرع الثقة في نفوس المواطنين والمقيمين أن هناك من يسهر على أمن الوطن، لاسيما عند رؤية الضباط والجنود وهم على أهبة الاستعداد في مواقع المراقبة الإلكترونية، أو في مواقعهم الميدانية المتقدمة.. حيث الصقيع والثلوج في مثل هذه الأيام.
ولذا كانت «القناعة» بأن حالة الأمن والاستقرار التي تتسم بها حدودنا الشمالية رغم كثير من المتغيرات السياسية والأمنية في دول الجوار، تأتي بفضل من الله أولا وأخيرا، ثم بجهود أولئك الرجال الساهرين على أمن وحماية الوطن.
موقع إستراتيجي
من خلال موقع جامعة الحدود الشمالية، اطلعت على معلومات عدة عن منطقة الحدود الشمالية، فهي تقع على بعد 50 كم فقط عن الحدود العراقية. ويقطع المنطقة طريق دولي يربطها بدول الخليج، وبلاد الشام، ويتقاطع هذا الطريق مع طريق الحج البري لحجاج العراق، وآسيا الوسطى، وتتميز المنطقة بوفرة المراعي، مما جعلها مصدرا هاما للثروة الحيوانية بالمملكة، كما أدى اكتشاف خام الفوسفات، وقيام مشروع الملك عبدالله لتطوير مدينة وعد الشمال، في محافظة طريف، للصناعات التعدينية، إلى جعل المنطقة ذات مناخ استثماري متميز يضعها على أعتاب نهضة كبرى، كما أنه موجودة بها إحدى المحميات الطبيعية للحياة الفطرية، وهي (محمية حرة الحرة).
وتقدر مساحة منطقة الحدود الشمالية بـ( 104.000 كم2) وتشكل هذه المساحة ما نسبته 5.3% من إجمالي مساحة المملكة، ويبلغ ارتفاع المنطقة عن سطح البحر نحو 300 متر، كما يقدر عدد سكان المنطقة (395297) نسمة، وذلك حسب تقديرات التعداد السكاني 2014 المبنية على نتائج تعداد عام 1431-2010.
الحدود الذكية
تشهد منطقة الحدود الشمالية مرحلة جديدة من البناء والتطور، منذ أن أعلن المغفور له بإذنه تعالى الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، عن إنشاء مدينة ثالثة للصناعات التعدينية (وعد الشمال)، يكون مقرها قرية حزم الجلاميد (100 كم شرق مدينة عرعر) والتي تحتضن أكثر من 540 مليون طن من الفوسفات، للانضمام إلى مدينتي الجبيل وينبع الصناعيتين للصناعات التحويلية، لتنويع مصادر الاقتصاد الوطني ودعم قطاعي النفط والبتروكيماويات في الناتج الإجمالي المحلي.
ذاك الإعلان التاريخي، تزامن أيضا مع مشروع خادم الحرمين الشريفين لأمن الحدود الشمالية «الحدود الذكية»، والذي يعد منظومة أمنية وتقنية متكاملة على طول الحدود الشمالية للمملكة. ويضم أربعة مجمعات لقيادة القطاعات؛ في محافظات طريف، ورفحاء، والعويقيلة، وجديدة عرعر وشعبة نصاب، تحتوي كل منها على مرافق إدارية وتعليمية وصحية وترفيهية، بالإضافة إلى مبنى للاستخبارات ومبنى خاص بالسجناء.
ويضم المشروع 32 مركز استجابة على طول الحدود مجهزة بثلاث فرق للتدخل السريع، بالإضافة إلى 38 بوابة خلفية وأمامية مزودة بكاميرات مراقبة. و78 برجا للمراقبة والاتصالات؛ منها 38 برج اتصالات، و50 كاميرا نهارية وليلية، و40 برج مراقبة، و85 منصة للمراقبة، و10 عربات مراقبة واستطلاع.
ويحتوي المشروع أيضا على 1.450 مليون متر شبكة ألياف بصرية، حيث يرتبط بالمديرية العامة لحرس الحدود ومقر وزارة الداخلية في الرياض، و50 رادارا، و5 سياجات أمنية بطول 900 كيلومتر تتكون من نظامي «ألفا» و«برافو»، يحميها ساتر ترابي وسياج من الشبك الملحوم.
مدينة حضارية
ما يجدر الإشارة إليه في بدء هذه الحلقات التي تتحدث عن يوميات رجال حرس الحدود بمنطقة الحدود الشمالية، المستوى الحضاري الذي وصلت إليه مدينة عرعر، التي كانت إلى حد قريب «بلدة» صغيرة. كنت خلال زيارتي لها أقارن ما سمعته وقرأته بما شاهدته على أرض الطبيعة.
كنت قد دونت أنني سأقوم بزيارة منطقة «الصفيح» التي كثر الحديث عن وجودها بمدينة عرعر، وبسؤالي عن هذه المنطقة قيل لي إنها أصبحت أثرا منسيا. وبدلا عن ذلك، وجدت الكثير من المشاريع التنموية والتجارية الحديثة، منها كلية التقنية المقامة على مساحة شاسعة، وكذلك السوق التجارية القائمة بحي الجوهرة.
لست هنا في صدد الحديث عن «عرعر» بقدر الحديث عن واقع الحال في الحدود الشمالية، لكن يجب الإشارة إلى ما سلف الحديث عنه وعن مدى الترابط الذي يجمع أبناء عرعر، ومظاهر الديوانيات والمخيمات التي ترسم ملامح ذلك.
ذكرى التابلاين
لم أزر منطقة الحدود الشمالية من قبل، وحين تهيأت للسفر إلى مركز المنطقة «عرعر»، عدت بذاكرتي لأكثر من ثلاثة عقود تقريبا، عند أول درس لمادة الجغرافيا، وكيف أسهب المعلم بالحديث عن «خط التابلاين» وأثره على الاقتصاد والتنمية.
استحضرت هذه الذكرى وأنا أقرأ عدة مقالات وتحقيقات صحفية تطرقت إلى النقلة الحضارية التي حققها مشروع «خط التابلاين» لمنطقة الحدود الشمالية آنذاك، وكيف ولدت «مدينة عرعر» من رحم هذا المشروع، الذي من خلاله قدم «أبناء الشمال» نماذج «لحوار الحضارات» وجسورا للتواصل مع الوافدين من شتى الأصقاع لتحقيق التنمية في هذا الجزء الغالي من الوطن.
أولئك «العربان» المعروفون برقصة الحرب «الدحة»، كانوا أهم رسل السلام للحضارات الأخرى، التي لم ينس المنتسبون لها ممن عملوا في مشروع خط التابلاين، سماحة أهلها، وسعة صدورهم، وكيف عاشوا لسنوات طوال بين ظهرانيهم بكل ترحاب وود، دفعتهم لتعلم اللغة العربية وفهم مبادى الدين الإسلامي الحنيف، كشربهم لحليب الإبل.
.. تماما كحال أبناء المنطقة الذين تناولوا «الهمبرغر» وكانوا الأكثر تميزا في تعلم اللغات الأجنبية، في صور سجلتها الكاميرات والمقالات والكتب.. ولكن يصعب تخيلها الآن، في واقع يسوده الإرهاب والتطرف.