-A +A
علي العميم

قدم أكثر من واحد من المعارف ملحوظات، قرأت ما هو أزيد منها في حساب باسم عبدالله السعدون على التويتر، أبداها تعليقا على الحلقة الأولى المعنونة بـ (جمال خاشقجي ومرجعه خالد الدخيل). ويسرني الآن أن أرد على الملحوظات التي غرد بها صاحب ذلك الحساب.

يرى السعدون أن خاشقجي لم يخطئ بوصف الدخيل، بأنه متخصص في العلوم السياسية «فخالد الدخيل متخصص بعلم الاجتماع السياسي، والعلوم السياسية ليست سوى فضاء تتداخل فيه علوم الرياضيات وعلم النفس والاجتماع والتاريخ والفلسفة، ولا يخفى على علي العميم أن فضاء العلوم متشابك، الأمر الذي يجعل تمييزه غير موضوعي».

خالد الدخيل صديق، وفي مقالي المذكور، ثمة إعلام بهذا الأمر، وفضلا عن هذا، فأنا متابع لكتاباته منذ أن استأنفها في جريدة (الرياض)، في أزمة الخليج الثانية قبل أشهر من نشوب الحرب، وكان وقتها طالب دراسات عليا يستعد للتحضير لرسالة الدكتوراه في جامعة كاليفورنيا.

وبالتالي، فأنا أعرف أنه يعرف نفسه بكونه مختصا بعلم الاجتماع السياسي، ولا حاجة لك بأن تكون صديقا له حتى تقف على تلك المعلومة، يكفي أن تكون متابعا لكتاباته، لأن خالدا حريص على ذكرها.

الأصدقاء والمعارف المشتركون بيني وبينه، وكذلك قراء الحلقة الأولى بما تضمنته من إعلام بأمر الصداقة، الذين يحسنون قراءة ما وراء السطور يستشفون من خلال إغفالي لتلك المعلومة، أني أتحفظ عليها، ولا أنكر أني من قوم، لا أرى أن الناس – بالضرورة – هم بحسب ما يعرفون أو يقدمون أنفسهم، خاصة في مجال الثقافة والعلم والدين.

القضية ببساطة أن خالدا قد درس علم الاجتماع في كلية الآداب بجامعة الملك سعود والعلوم السياسية حين ذاك، كانت تدرس إلى جانب علم الاقتصاد والمحاسبة في قسم يتبع كلية مختلفة، هي كلية التجارة، ثم أتم دراسته العليا لعلم الاجتماع في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجليس في أمريكا.

قيل في التعريف بخالد في ويكيبديا – والتعريف من الواضح أنه مستمد منه – إنه حاصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في مجال علم الاجتماع السياسي. في مرحلة الماجستير قدم بحثا عن ثورة 23 يوليو 1952. أما رسالته في مرحلة الدكتوراه، فكانت عن الجذور الاجتماعية للحركة الوهابية في نجد، أو وسط الجزيرة العربية.

ما كتبه عن ثورة 23 يوليو في مرحلة الحصول على درجة الماجستير، يجعلني أذكر بمعلومة يعرفها طلبة الدراسات العليا الذين تلقوا تعليمهم في أمريكا، وهي أن معظم الجامعات الأمريكية كانت لا تعطي وزنا لبحث مطول للحصول على درجة الماجستير، وإن وجد بحث – أو على الأصح ورقة – يعتبر تتمة للكورسات المطلوبة التي هي الأساس. وإضافة إلى هذا، ورقة خالد لم تنشر، ولا يتوفر تعريف بها. وعليه لا يمكن القطع بأنها في موضوعها تدخل ضمن موضوعات علم الاجتماع السياسي.

أما رسالته للدكتوراه والتي عنوانها كما في ترجمتها إلى العربية: (الوهابية بين الشرك وتصدع القبيلة)، فموضوعها هو عن نشأة الدولة الوهابية وأصلها وتحديد جذورها الاجتماعية، ومكانها مكان بيني، أي بين التاريخ والاجتماع والسياسة. صحيح أن أصل الدولة من موضوعات العلم المستجد، علم اجتماع السياسة، وأن ربط السياسي بالاجتماعي، تعريف أولي أو مبسط بهذا العلم لكن في الوقت نفسه، أصل الدولة هو من موضوعات علم الاجتماع وعلم السياسة وعلم الأنثروبولوجيا. كما أن التعريف الأولي أو المبسط هو تحليل قديم وسائد في العلوم الاجتماعية قبل ظهور مسمى علم الاجتماع السياسي بزمن طويل.

وقد يقول قارئ للرسالة إنها ألصق بعلم الاجتماع التاريخي منها إلى علم الاجتماع السياسي، وهذا يشير إلى الوضع القلق والعائم لما يسمى بعلم الاجتماع السياسي.

مشكلة هذا العلم المستجد أن موضوعاته غير جديدة، ولا هي مستقلة ومتمايزة في حدودها وفي محتواها عن العلمين المشتقين اسمه منهما، وهما: علم الاجتماع وعلم السياسة.

ولا عبرة أن خالد الدخيل خلف الليبي فيصل الزقلعي في تدريس مادة «علم الاجتماع السياسي» لطلاب العلوم السياسية وعلم الاجتماع في جامعة الملك سعود، أو هو درسها بصحبته. لأن المحك هو أنه ليست له بحوث تندرج ضمن علم الاجتماع السياسي ولا حتى علم الاجتماع. هذا إذا نحينا في العلم الأخير رسالته للدكتوراه.

في كتاب عنوانه (البحث العربي ومجتمع المعرفة: رؤية نقدية جديدة) وفي فصله التاسع والأخير (نحو فهم كتابة الأكاديميين العرب للعموم: حالات مقالات الرأي في الصحف اللبنانية) يتحدث ساري حنفي وريغاس أرفانتيس عن أساليب التعبير عند هؤلاء، وهذه الأساليب – حسب تقسيمهما – هي: الأسلوب التأملي، والأسلوب الاستفزازي، وأسلوب المواطن.

وإذا غضضنا النظر عن أن الأسماء التي اختاراها للتمثيل على هذه الأساليب معظمها لم يكونا موفقين فيها، وأحببنا أن نستعين بها في توصيف حالة خالد، لقلنا إنه يدخل في خانة الأسلوب الثالث و«هو عندما يكتب الأكاديمي كمواطن، ولا يستطيع المرء العثور على مساهمة تخصصية، ولا حتى على نظرية أو بحث ميداني، لذلك يصبح من الصعب أحيانا معرفة هل يناقش الكاتب القضية كمواطن أم كباحث».

وكان مثالهما على هذا الأسلوب عدد من مقالات أسعد أبو خليل في صحيفة (الأخبار)، وسامر فرنجية في صحيفة (الحياة). سامر فرنجية لم أحظ إلى الآن بالقراءة له، لذا لا أستطيع أن أقول عنه شيئا، أما أسعد أبو خليل فهو ليس عينة ممثلة لهذا الأسلوب لأنه يخالف صفة وضعاها لصفحات الرأي «هي - أنها – تسمح للكاتب غير المحترف بوضع قضية ما تحت أنظار صناع القرار والرأي العام أو بتقديم وجهة نظره وخبرته عبر الأخبار»، يخالفها نظرا إلى كونه كاتبا محترفا يجيد فن الكتابة ويبرع فيه، ولأنه لا يكتب بدرجه أساس بوصفه مواطنا، قد يكون له رأيه الخاص المستقل أو يعبر عن أفكار جماعية لفريق وطائفة ما، أو ينتمي لمنظومة حزبية أو عقائدية بعينها، وإنما هو موجه وبالتعبير الشامي مستزلم ليكون بوقا دعائيا. وهذا يفسر لنا أن مقالاته تتخللها الفجاجة والابتذال والسخف والبذاءة والسطحية، رغم أنه مثقف مطلع وقارئ نهم وكاتب موهوب.

خالد الدخيل هو أحق وأجدر من أسعد أبو خليل في تمثيل الأسلوب الثالث، فهو أكاديمي يكتب بوصفه مواطنا. ويعتمد على معرفة عامة وعمومية وعلى آلية ومحفوظ (كليشيه) تحليلي محدود جدا في تعرضه لقضايا ذات أبعاد متعددة تحتاج معاينتها إلى قدر من التخصص وقدر من التوغل فيها، والإحاطة والدربة الثقافية والتمرس المنهجي. وهو في تعرضه هذا لا يستعمل شيئا من تخصصه الأكاديمي في علم الاجتماع في مقاربته لتلك القضايا.

غياب ما أشير إليه عند خالد وعند نفر من زملائه الأكاديميين، يعود بطبيعة الحال إلى الوضعية التي اتخذها علم الاجتماع وعلوم أخرى في العلوم الإنسانية في الجامعات السعودية، منذ إنشاء أقسام لها فيها. فبسبب المحافظة السياسية والمحافظة الدينية المحكومة في ما مضى بفوبيا الشيوعية، والمحكومة في ما مضى وإلى الآن بفوبيا العلمانية جعل من علم الاجتماع – على سبيل المثال – يتمركز تدريسه في مجالين محدودين ضيقين هما: الخدمة الاجتماعية والضبط الاجتماعي. وهذه هي وظيفة ومجال علم الاجتماع في الواقع الأكاديمي والسعودي.

وللتعرف على حال أقسام علم الاجتماع في الجامعات السعودية يستحسن الرجوع إلى بحث كتبه عبدالله بن حسين الخليفة، اسمه: «التكوين العلمي في علم الاجتماع، حالة السعودية» نشر ضمن كتاب جماعي اسمه «مستقبل العلوم الاجتماعية في الوطن العربي»، صادر عن مركز دراسات الوحدة العربية.

أما الشق الآخر من ملحوظة السعدون، فأرد ابتداء عليها أنه ليس صحيحا أن علوم الرياضيات تتداخل أو تدخل في العلوم السياسية. وتداخل العلوم السياسية مع علوم أخرى كعلم النفس والاجتماع والتاريخ والفلسفة، وأن فضاء العلوم الاجتماعية متشابك، هي قضية أخرى ومختلفة. وتمييزي بين العلوم الاجتماعية والإنسانية هو تمييز موضوعي، لأني أتحدث عنها بعد مرحلة استقلال كل علم فيها ولا أتحدث عنها في مرحلة القرون الوسطى حينما كانت تسمى في الحضارة العربية الإسلامية بعلوم الأوائل وتسمى في الحضارة الأوروبية المسيحية بالفلسفة الطبيعية. والتداخل والتشابك إذا فتحنا الباب لمثل هذه المماحكة ليس مقصورا على العلوم الاجتماعية والإنسانية، بل هو قائم بين هذه العلوم وبين العلوم المحضة.

افتتح السعدون ملحوظاته بملحوظة، هي الأولى، تعجب فيها أن أناقش بحدية صارمة مقالا بصحيفة، وكأنه رسالة دكتوراه. وأضاف بتوجيه إرشادي: أن ثقافتي موسوعية غير أن مكانها ليس هنا. أي أن مكانها ليس مناقشة مقال صحافي منشور في صحيفة يومية.

أولا: الموضوع الذي ناقشته مع خاشقجي ومع الدخيل ضمنا، هو موضوع تخصصي وأكاديمي. والثورة والانقلاب يدخلان في نطاق علم الثورة أو علم اجتماع الثورة.

ثانيا: أود أن أنبه إلى أن النقاش «بحدية صارمة» ليس وقفا على مناقشة الرسائل العلمية، بل هو مطلوب في كل مجالات الكتابة وأنواعها. والمقالات المنشورة في الصحف اليومية هي أولى من غيرها بالنقد الحازم، لأن من يقرأها هم جمهور عام، ولا تقتصر قراءتها على نفر من المتخصصين الذين يفرقون بين الغث والثمين وبين الصحيح والزائف. وهذا الجمهور العام يتخذ من تلك المقالات مصدرا لمعلوماته ومنهلا يغرف منه أحكامه وتحليلاته ومصادراته، وقد تكون المعلومات والأحكام والتحليلات والمصادرات، مغشوشة ومعطوبة وضحلة وسقيمة.

إن الكاتب والمثقف والشيخ وطالب العلم، عندما يتأكد أن لا معقب وراءه ولا مراجع لكلامه، سيتمادى في استغفال القارئ أو السامع ولايأخذ نفسه بالجدية المطلوبة، وقد ينظر في الشأن الجلل والخطر مع أنه لا يحسن الحديث في الشأن التافه والحقير.

وأظن أن السعدون لا يعلم أن من أسباب ضعف الفكر الإسلامي الحديث وسيره في مسار تراجعي وانحداري، هو غياب منحى النقد الداخلي فيه. وتتشابه الثقافة في السعودية، بتياراتها العلمانية مع الإسلاميين – إلى حد ما – في هذه الصفة. إن الإسلاميين الذين كانوا في السعودية دولة داخل دولة، راكموا معرفة غير دقيقة حينا، وغير صحيحة حينا آخر. ومع حضور التعددية الفكرية النسبية والبسيطة في السنوات الأخيرة، أرى أن ثمة آراء واجتهادات وتحليلات مقدمة من ليبراليين وإسلاميين يحتاج بعضها إلى مراجعة ونخل. ومن شأن عمل كهذا لو توالى وتكاثر أن يقوي ويمتن الثقافة في السعودية.

وإن كان السعدون يقصد بملاحظته تلك، أن نقداتي كانت شكلية محضة، كما يحصل في مناقشة الرسائل العلمية التي تدقق وتتشدد في ذكر الأخطاء والنقص المتعلق بالشكل، فإني أنفي دعواه هذه. فنقداتي كانت مضمونية وجوهرية. وأستثني من هذا النفي شق من ملحوظة نقدية تتعلق بخطأ في التعبير سببه خطأ في التقديم والتأخير في صياغة الجملة. وقد قصدت من إيرادها تطرية المقال، ولأنها تتيح لي الهزل. وأنا كاتب تستهويني الدعابة والسخرية، إن توفرت موجباتها ومحفزاتها.

قال في ملحوظته الثالثة: لا أظن أحدا فهم من خاشقجي حين قال ألف سنة أنه قد حسب السنين الألف تماما، بل غالبا هي صيغة مبالغة تعني منذ أمد بعيد. وكما وصف العميم حكم الإخوان، بأنه سنة ويومان، فلو قال أحد حكم الإخوان سنة، لما كان ذلك خطأ، ولم يكن الأمر يحتاج إلى درس تاريخ الفاطميين!.

وأقول: إن خاشقجي لم يترك نشأة سلطة العسكر في تاريخنا معلقة في حين من الدهر، مقداره ألف سنة تعبيرا عن أن أمد سلطة العسكر سحيق في الزمن، فبعدها مباشرة، حدد بدايتها وربطها بنشأة الحكم المملوكي. وعليه فإن التخرص في تحديد الزمن في هذه الحالة، افتئات على الزمن، وتعد على التاريخ وعلى حقبه. ثم إن قضية جليلة وخطرة، كبداية الحكم العسكري ومصادره وأسبابه في تاريخنا القديم وفي تاريخنا الحديث، لا يصح إرسال الكلام فيها على عواهنه، والحديث فيها كيفما اتفق. وقد تذكرون أنه في الحلقة الرابعة أومأت إلى أن الفكرة قضية مطروحة ومدروسة في اتجاهات مختلفة في الكتابات المصرية لكن جمال أخفق - وبكفاءة - في تقديمها.

إن الغلط الذي وقع خاشقجي فيه في تحديد زمن بداية حكم المماليك مرده من دون تحذلق إلى أن تتابع الدول والممالك والدويلات الإسلامية غير واضح في ذهنه. أي أن زمنها كما يقول المصريون «سايح على بعضه»!.

ثمة بون شاسع بين غلط خاشقجي في تحديد بداية زمن المماليك وبين حرصي على تحديد مدة حكم الإخوان المسلمين بمصر بالأيام.

فالغرض منه لم يكن توخي الدقة، كما توهم السعدون، وإنما إمعان في التندر والاستهزاء.

ولا أحسب أن خاشقجي وصاحبنا المستهزئ في ملحوظته في غنى عن درس تاريخ الفاطميين ودرس تواريخ أخرى، إلا إذا كانا يشعران بالتشبع من التاريخ، والامتلاء بالمعرفة إلى حد التخمة المفرطة.

في ملحوظته الرابعة جزم أن مصطلح انقلاب مرذول، بدليل أن مؤيدي الانقلاب أنفسهم يتنصلون من المصطلح. خصوصا أن السياق سياق ثورة أتت بشرعيات مدنية ديمقراطية حديثة.

الانقلاب هو في أصله ليس مرذولا، وقد أوردت بعض البراهين القاطعة في هذه القضية الشائكة والملتبسة في حلقتين سابقتين. وخطأ خاشقجي في هذه القضية خطأ بسيط وهين لأنه كما قلت - في خاتمة الحلقة الأولى، لا ينفرد به، بل هو خطأ شائع، ويشفع له وإن لم أقلها صراحة أن برنارد لويس وقع بالخطأ نفسه قبله.

وكان من الواضح من سياق كلام الخاتمة، أني سآتي ببراهين تصحح ذلك الخطأ الشائع.

وما ضر السعدون هداه الله لو تأنى وانتظر؟!

قاتل الله العجلة!.

في خاتمة ملحوظاته، وبعد أن فرك السعدون يديه، مزهوا بمناقشته، أبرم حكمه النهائي الذي قال فيه:

اللمحة النقدية الذكية في كل المقال يعني مقال جمال خاشقجي ومرجعه خالد الدخيل، هي أن وصف خاشقجي الانقلاب، كامتداد تاريخي لحكم ألف سنة، يمنحه شرعية تاريخية ما.

من غير زهو أقرر، أن ملحوظات محامي خاشقجي والدخيل النقدية تقلبت بين التكلف والمماحكة والمغالطة والحذلقة والتمحل والتعجل، وتجلت فيها قطعية وثقة مفرطة بالنفس – كما في خاتمة ملحوظاته – وهي الصفة ذاتها التي تتسم بها كتابات خالد. هذه الصفة - يعلم الله - أني أخفقت أن أجد لها سببا وجيها، وفشلت في أن أعثر لها على مسوغ مقنع.





* كاتب وباحث سعودي