-A +A
محمد مفتي
في سبعينات القرن المنصرم قامت نخبة لامعة من الفنانين السوريين، ممن يحملون رؤى نقدية تجاه واقع قامع وضاغط، بإنتاج مسلسل تلفزيوني شهير بعنوان «صح النوم»، كان المسلسل وقتذاك بمثابة رؤية ثاقبة للحاضر وسابقة للعصر في آن واحد، وكان يحكي قصة رمزية تدور أحداثها في حارة لا يحكمها أي قانون، وكل فرد من أفرادها ينفذ كل ما يريده دون الاحتكام إلى مرجعية أو قانون عام، ومن هنا ظهر مصطلح «حارة كل من إيدو إلو»، الذي بات منطبقا فيما بعد على حال دول عربية عديدة تعيش حالات مختلفة وبدرجات متفاوتة من الفوضى والانفلات وعدم الرضوخ للقانون، ولقد سعى وقتها مؤلف المسلسل الفنان المبدع «نهاد قلعي» لخلق حالة من الإسقاط السياسي من خلال توظيف رموز مسلسله الساخر على الواقع المرير، وللتنويه عن وضع سياسي مرتقب تضيع فيه هيبة الدول وتعجز عن فرض القانون بين مواطنينها.
يزخر التاريخ الفني لنهاد قلعي بالكثير من الأعمال الفنية المميزة كمسرحية غربة وضيعة تشرين، التي تم إنتاجها في عهد النظام السوري الديكتاتوري، الذي اعتقد أن وجود مثل هذه الأعمال الفنية سيسهم في امتصاص غضب الشارع في ظل نظام قمعي خانق، واعتقادا منه أن تلك الأعمال الفنية بمثابة أداة لتحسين وجه النظام البغيض وإظهاره بمظهر النظام السياسي المتفتح الحر المتقبل للنقد، ولكنها الحرية المشروطة بطبيعة الحال، التي تشترط على صناع العمل الفني الالتزام الحرفي بالنص الذي تفرضه سلطات الدولة العليا وأجهزة استخباراتها، إلا أن المؤلف لم يلتزم بالنص المعتمد لإدراكه أن الواقع أشد مرارة، ولهذا لم تخل حياته من التدخلات الأمنية السافرة والمميتة، والتي ربما كانت السبب في إصابته القاتلة ثم موته البطيء.

على النقيض من الوضع القامع والضاغط في سورية، عاشت لبنان حرية سياسية، ولكنها في الواقع حرية الفوضى، فأصبح لها أكثر من حاكم ونظام، عاشت لبنان الانفلات الذي جعل جميع مفاصل الدولة مكشوفة، هشة، لينة، مفتوحة المصراعين أمام أي نفوذ وإزاء أي سطوة، عرضة للتمزق والانحلال في أي وقت وطبقا لأي ظروف، ولعل تلك الحرية المنكوبة كانت سبب الحرب الدموية الأهلية التي عصفت بلبنان لفترات متفاوتة منذ استقلالها.
لقد سعت المملكة لنزع فتيل الحرب بلبنان وإنهاء أزمتها المستعرة من خلال اتفاق الطائف التاريخي، وقد أعلنت المملكة دعمها المادي لجيش لبنان الوطني وللقوى الأمنية به لتقوية مؤسسات الدولة اللبنانية وإعادة تأسيسها من جديد، وعلى الرغم من أن اتفاقية الطائف نصت على ضرورة حل الميليشيات العسكرية بكافة فصائلها، إلا أن حزب الله أبى تفكيك ترسانته العسكرية وتسريح جنوده، وأصر على الإبقاء على وجوده العسكري باعتباره رمزا للمقاومة الشعبية اللبنانية ضد الوجود الإسرائيلي في المنطقة، وعلى الرغم من هشاشة المبرر وتشكيك الكثير من الخبراء والمحللين في مدى موضوعيته نظرا لوجود قوات عسكرية نظامية لبنانية، إلا أن الحزب أصر على الاستمرار والتواجد العسكري في لبنان، في ظل معادلة سياسية غير متزنة في دولة تعاني حالة استلاب سياسي قسري.
وكما هو متوقع فإن حزب الله لم يستمر لمجرد أداء دور عسكري مخول فقط بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، فقد بدأ الحزب في التغلغل والتعمق للوصول إلى مفاصل الدولة وأطرافها، وشرع في تأسيس نفوذ مواز لنفوذ الدولة النظامية، وقد دعمه بطبيعة الحال نظام الملالي في إيران من أجل تنفيذ مخططات الثورة الإيرانية في المنطقة، وقد أصبح حزب الله تدريجيا هو المتحكم الأول في سياسة لبنان الداخلية والخارجية، والوكيل المعتمد لنظام طهران في بلاد الشام، وهو ما تمكن من فعله من خلال تغييب دور القانون وإضعاف المؤسسات السيادية بالدولة، مما أدى لتعاظم نفوذ جميع القوى السياسية بالدولة حتى وصلت لمرحلة من الفوضى والسيولة وأصبح لبنان عن حق «دولة كل من إيدو إلو».
للأسف لقد تجاوز نفوذ حزب الله الخطوط الحمراء بشكل يسيء ويهدد أمن المملكة واستقرار المنطقة، لذلك لو لم يتم إنفاذ القانون وحل الميليشيات العسكرية وتقليم أظافر حزب الله وأعوانه، فإن المنطقة برمتها لن ترى بصيصا من الضوء ولن يلوح لها في الأفق أي بارقة أمل، كما أن لبنان نفسه لن يتمكن من البقاء طويلا كدولة بسبب سقوطه فريسة لقوى سياسية أخرى موازية لا يعنيها سقوط لبنان من جديد في مستنقع الفوضى، بقدر ما يهمها أولا وأخيرا إرضاء نظام طهران.