نشرت «راند» (مؤسسة أبحاث عسكرية أمريكية لها نفوذ واسع على صناع القرار الأمريكي وفي رسم سياسة أمريكا الخارجية) قبل نحو شهرين تقريرا بالغ الأهمية عن، لا أقول نوايا، بل سياسات أمريكية ستُعتَمد في التعاطي مع العالم الإسلامي وفي القلب منه عالمنا العربي، خلال الشهور وليس السنوات القادمة. وبرغم أهمية التقرير الذي يكاد يحدد ملامح المنطقة جغرافيا وسياسيا واجتماعيا، وقبل كل شيء دينيا وعقديا، فإنه لم يلق ما يستحق من اهتمام، فهو يخبرنا عن الوجه الجديد القادم إلينا من واشنطن وتفكيرها الجديد بعد أفول نجم محافظيها الجدد، يحدثنا عن حقبة ما بعد بوش وما بعد فكرة الهيمنة، تلك الفكرة التي أغوت أمريكا فأوردتها المهالك، ومع هذا لم يلفت التقرير انتباه كثيرين. سأجازف بابتساره(217صفحة، مقدمة وخاتمة وتسعة فصول) في سطور قلائل لمن لم يقرأ عنه بعد، ثم تعليقي المتواضع عليه. عنوانه يحدد محتواه « بناء شبكات إسلامية معتدلة» ويبحث في طرق بناء شبكات من مواطني العالم الإسلامي، تساعدهم مؤسسات أمريكية للتأهل لقيادة هذا العالم، ولهؤلاء المواطنين المختارين مواصفات أمريكية محددة، منها المرونة في الأمور الدينية، بمعنى الميوعة كما سترون لاحقا، ومنها المرونة في التعامل مع المرأة بالسماح لها بصديق بدلا من زوج، حسب نص التقرير، ومنها أيضا المرونة في حق الرجل في أن يكون شاذا، مرة أخرى حسب نص التقرير. ولا يرى التقرير سوى العلمانية (بمعنى محدد وموجه ضد الدين) مخرجا للمنطقة من تخلفها، ولا سواها طريقا لمحاربة الإرهاب، ذات الإرهاب الذي صنعته أمريكا سابقا ثم رعته ثم أعلنت الحرب عليه. من السهل رفض التقرير ومن ثم إغلاق الباب والنوم دون إزعاج، غير أن الأمر في حقيقته أبعد من ذلك بكثير، فهو ليس مثل تقارير حقوق الإنسان التي تصدرها الخارجية الأمريكية يمكن مناقشتها ثم نسيانها ونسيان أصحابها، وليس تقريرا عن سياسة بترولية أو اقتصادية جديدة ستفرضها أمريكا وقد نقاومها، هو تقرير سيمس الحياة اليومية لمليار ونصف المليار مسلم حول العالم، سيجدد لهم معتقدهم ويرسم فكرهم وحتى طريقة معاشهم. لم تجد أمريكا بدا من تبنيه كتوجه جديد في العالم الإسلامي، بعد فشل كل طرق المواجهة سابقا، وبالخصوص بعد أحداث سبتمبر. بعيد تلك الأحداث المؤسفة حددت مؤسسة راند لأمريكا مصادر التهديدات الموجهة لأمنها، ومنها تداعيات الأوضاع الداخلية في الدول التسلطية التي تنتقل منها ثقافة الكراهية نحو أمريكا، فأمعن الرئيس الأمريكي في الحديث عن جلب الديموقراطية لهذه الدول، مع ضرورة التفريق بين المسلمين المتطرفين والمعتدلين حسب وصية المؤسسة البحثية. غير أن فوز مسلمين معتدلين في الانتخابات العربية والإسلامية، وعدم قدرة أمريكا على رؤية أية فوارق حقيقية بين التيارين، دفعها إلى افتراض عداء كل المسلمين لها حسدا من عند أنفسهم، والحقيقة هي تكالبها على ثرواتهم سواء كموارد أو كأسواق، ولكن عين الطمع عن كل عيب كليلة. من هنا تبنت وزارة الخارجية الأمريكية تقرير راند الأخير بضرورة البحث عن مسلمين يوافقون أمريكا الرؤية ويشاركونها المصلحة، وعلى عكس عنوان التقرير، يشترط فيهم البعد عن الاعتدال، بمعنى رفض الدين كفكرة ورفضه كتشريع. على سبيل المثال شيخ فاضل وعالم في قامة القرضاوي، الذي يعتبره كثيرون لدينا «متساهلا»، يصمه التقرير بأنه سلفي متشدد فيبعده، وأدونيس المفكر الملحد يجده مسلما متنورا فيقربه، وعلى هذا المنوال ينسج التقرير المليء بأسماء مسلمين خارجين على روح الإسلام وكنهه ستقوم أمريكا بتزكيتهم لقيادة العالم الإسلامي. اللافت في التقرير وصف الصراع بين العالم الإسلامي وأمريكا بأنه صراع فكري، وهذا شيء جيد، فكيف يوكل أمر فكري إلى مؤسسة بحثية عسكرية ؟ كيف أمكن إحالة كامل الملف الإسلامي إلى اهتمامات وزارة الدفاع الأمريكية؟ لو كان صراعا فكريا فمكانه الجامعات ومراكز الفكر الإستراتيجية المنتشرة في أمريكا، وإن كان سياسيا فوزارة الخارجية، وإن كان اقتصاديا فمكانه دوائر الاقتصاد المعروفة. هل هو توجه مسبق كالحروب الاستباقية، بدعة أمريكا الأخرى، وإصرار أمريكي على فرض مصالحها بطرق جديدة؟ تذكرون مقولة الغزو الفكري، لم يعد كذلك صار إنباتا فكريا أصبح منتجا محليا، قد يكون هجينا، بمعنى معدل وراثيا، ولكنه مرصوف في شوارعنا طابوراً خامساً، لتحقيق النبوءة الأمريكية بشرق أوسط أمريكي، فيحقق التقرير ما عجزت الدبابة والدبلوماسية عن تحقيقه.
للمرة الثانية بعد الألف أسأل ماذا نحن فاعلون بعد أن اتضح أننا مستهدفون؟ وللمرة الثالثة بعد الألف أسأل السادة أعداء نظرية المؤامرة ماذا يسمون هذا، تخطيطا ضد كل ما هو عربي وما هو مسلم وذبح على الهوية، تفرقة عنصرية دينية لا أخلاقية، سموه ما شئتم ولكنه التآمر بكل عناصره وأركانه وبجلود وطنية. لأمريكا ذات الفكر الحر ودولة القانون والديمو( قراطية) أن تبحث ما تشاء، وتقرر ما تشاء، غير أن سؤالي مازال ناشبا ماذا نحن فاعلون مع سن اليأس الفكري العربي؟ إن كان ثمة نقطة صحيحة في التقرير فهي القول بأنه صراع فكري، فهل نتيح لفكرنا أن ينمو بحيث يستطيع المواجهة، أم أن العاصفة القادمة ستهب فلا تبقي ولا تذر؟ يا أمان الخائفين.
للمرة الثانية بعد الألف أسأل ماذا نحن فاعلون بعد أن اتضح أننا مستهدفون؟ وللمرة الثالثة بعد الألف أسأل السادة أعداء نظرية المؤامرة ماذا يسمون هذا، تخطيطا ضد كل ما هو عربي وما هو مسلم وذبح على الهوية، تفرقة عنصرية دينية لا أخلاقية، سموه ما شئتم ولكنه التآمر بكل عناصره وأركانه وبجلود وطنية. لأمريكا ذات الفكر الحر ودولة القانون والديمو( قراطية) أن تبحث ما تشاء، وتقرر ما تشاء، غير أن سؤالي مازال ناشبا ماذا نحن فاعلون مع سن اليأس الفكري العربي؟ إن كان ثمة نقطة صحيحة في التقرير فهي القول بأنه صراع فكري، فهل نتيح لفكرنا أن ينمو بحيث يستطيع المواجهة، أم أن العاصفة القادمة ستهب فلا تبقي ولا تذر؟ يا أمان الخائفين.