-A +A
خالد عباس طاشكندي
صدق الأمير سعود الفيصل - رحمه الله - حين سأله صحافي في أحد المؤتمرات العام الماضي عن الموقف الروسي من تسليح الحوثيين، فأجابه ممازحا: «إذا عرفت الموقف الروسي أرجو أن تبلغني»، وهذا هو بالفعل لسان حال روسيا التي فاجأت العالم بسحب قواتها من سورية الأسبوع الماضي دون مقدمات ولا مبررات واضحة، وجعلت كبار الساسة في العالم يتساءلون في دهشة عن الأسباب، وعلى رأسهم البيت الأبيض الذي بدا متفاجئا ومذهولا بعد أن أكد ناطقه الرسمي جوش أرنست أن روسيا لم تخطر الولايات المتحدة مسبقا بقرارها الرحيل عن سورية، ولو عدنا قليلا إلى الوراء، لوجدنا أن أسباب التدخل الروسي في سورية أيضا كانت مبهمة، وأثارت دهشة العديد من الوسائل الإعلامية والمحللين الإستراتيجيين الذين أمطرونا حينها بوابل من الفرضيات حول أسباب التدخل.
ونلتمس هذه الحقيقة حول ضبابية السياسة الروسية من خلال أصداء الانسحاب الأخير في وسائل الإعلام الغربية، ففي صحيفة الفاينانشيال تايمز، وصف الكاتب ديفيد غاردنر الرئيس بوتين بأنه رجل المفاجآت وأن قراره سحب «القوات الأساسية» من سورية لم يتوقعه أحد، وتساءل عن دوافع أكثر الزعماء «مراوغة» واللعبة التي يلعبها الكرملين الآن، أما صحيفة الغارديان فكتبت في افتتاحيتها بأن إعلان بوتين انسحاب قواته من سورية يعد مفاجأة للعالم، وأن الإدارة الأمريكية على ما يبدو وجدت صعوبة في استدراك هذا التحول الروسي بعد ستة شهور فقط من الهزة العنيفة التي سببتها روسيا لدى الغرب من جراء تدخلها العسكري، كما أوردت النيويورك تايمز بافتتاحيتها أن تداعيات هذا الإعلان المفاجئ المتمثل بالانسحاب الروسي من سورية لا تزال «غير واضحة».

أما وسائل الإعلام الروسية، فقد اعتبرت أن الانسحاب يعد انتصارا، وأعطوا بعض الإيماءات حول أسباب الانسحاب ولكنها متضاربة، حيث اعتبرت صحيفة «كومرسانت» الروسية في تقرير نشرته الثلاثاء الماضي أن قرار موسكو سحب قواتها من سورية يعد انتصارا لها بحجة أنها جمعت نظام بشار الأسد ومعارضيه في مفاوضات جنيف، وأعطت بالتالي الأولوية للتسوية السياسية بين الفرقاء السوريين بدلا من الغرق في الحرب، فيما كتبت صحيفة «ايزفستيا» أن الانسحاب الروسي يظهر أن الجيش السوري بات قادرا الآن على مواجهة قوات تنظيم داعش دون الحاجة للمساندة الروسية، وأشارت صحف أخرى إلى أن روسيا انتصرت باعتبار أنها خرجت من المستنقع السوري دون التورط في حرب برية.
عموما، تبقى الأسباب والمبررات المطروحة في وسائل الإعلام والتقارير مجرد تكهنات وفرضيات لهذا الانسحاب الذي يعد مفاجأة عالمية بكل المقاييس وسرا من أسرار السياسة الضبابية التي تنتهجها روسيا، ولكن لو طرحنا أبعاد الاندفاع الروسي في سورية منذ البدايات قد نجد أن الأسباب متعلقة نوعيا بمشاريعها الاقتصادية وتحديدا «ملف الطاقة» المليء بالتشابكات المعقدة، خاصة مسارات صادرات الغاز الروسي المسال الذي تصدره لأوروبا عبر خط أنابيب «نورث ستريم» (السيل الشمالي) الذي يمر عبر أوكرانيا إلى قلب أوروبا، وهذا واجه مشكلات ضخمة وتقاطع في المصالح مع مشروع «خط غاز نابوكو» الأمريكي الذي يمر عبر دول حوض بحر قزوين إلى تركيا وبلغاريا ورومانيا والمجر ثم النمسا، هذه المشاريع الاقتصادية تسببت في الاضطرابات السياسية التي شهدتها أوكرانيا منذ الثورة البرتقالية في 2005، ودفع الجانب الروسي إلى القيام بمشروع السيل الجنوبي (ساوث ستريم) ليتجه عبر البحر الأسود إلى بلغاريا والمجر ثم النمسا تفاديا للمرور عبر أوكرانيا، ثم قامت بإلغائه في ديسمبر 2014، وإحلال خطّ أنابيب «السيل التركي» (توركيش ستريم) الذي يمر عبر البحر الأسود إلى تركيا واليونان في بعض تفريعاته، ويواجه مشكلات سياسية تعرقله، نتيجة لمنافسة مشروع خط أنابيب الغاز الأمريكي (نابوكو)، لذلك ظلت طرطوس الميناء الدافئ الوحيد الذي تضمنه روسيا كواجهة جيو-إستراتيجية مطلة على المتوسط، وهو ما جعل الملف السوري مصيريا لها في ظل تعرقل مشاريعها الاقتصادية الحيوية والتي باتت تتطلب صياغة تحالفات إقليمية جديدة في المنطقة وإنشاء منظومة أمنية إقليمية تؤمن المكاسب الروسية، ولكن تحقيقها بات مهمة بالغة التعقيد في ظل تضارب المصالح الدولية والإقليمية.
ولا يزال باب التكهنات حول الانسحاب الروسي وأسبابه مفتوحا وسرا كبيرا، فربما غادرت وهي تجر ذيل هزيمة موجعة على الصعيد الاقتصادي والسياسي وعدم تحقيق مكاسب ميدانية، وربما هربت من مستنقع لن يعالج عسكريا، الأهم في هذا كله أنها غادرت وخروجها رحمة للشعب السوري والمنطقة .. باي باي روسيا بلا رجعة.