-A +A
د.عبدالله بن موسى الطاير*

أطلق تنظيم القاعدة الإرهابي الذي تأسس عام 1988 شعاره في عبارة واحدة كتبت على لافتة منمقة: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب»، وقبل هذا النموذج الغالي في التطرف، أعلن «حزب الله» شعاره في كلمة واحدة هي «المقاومة». وكان يمكن أن نتوقف عند هذين المثلين لولا أن القصة تعيدنا إلى ما قبل حزب الله عندما اختطفت الثورة الإيرانية وتربع الولي الفقيه على هرم السلطة ورفع شعار: (الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود). نموذج توالد مع الزمن يمتهن الشعارات النبيلة، ويستثير المشاعر الدينية من أجل تحقيق أهداف سياسية. منذ فبراير عام 1979 تبنى الخميني قضايا تحرك مشاعر العوام كمحاربة قوى الاستكبار العالمي المتمثلة بالشيطانين الأكبر والأصغر (أمريكا، إسرائيل)، وأوكل حزب الله بملف المقاومة، ولاحقا تنظيم القاعدة لتهديد مصالح أمريكا، وتشكيل بؤر توتر تقض مضاجع حلفائها في المنطقة. وبقي الحرس الثوري منشغلا بهدف وحيد هو المملكة التي تعد العقبة الكأداء الوحيدة التي تحول بين الولي الفقيه وقيادة العالم الإسلامي.





قامت إيران بتحليل عوامل القوة السعودية فوجدتها ماثلة في شعب وفي، وقيادة تبني بصمت، وتحالفات سعودية تجعل المساس بأمن المملكة مساسا بمصالح الحلفاء. قدح ذهن الشيطان الفقيه فكرة ضرب الشجرة السعودية بأغصانها، واستهداف أمريكا بأدوات سعودية لتحقيق أثر مضاعف. وأوكل لتنظيم القاعدة اختراق المجتمع السعودي باسم الدين، وتوجيه بعض الشباب لضرب وطنهم في الداخل وسمعته ومصالحه في الخارج. وبعد مرور 37 عاما نستطيع القول بثقة إن إيران وراء كل عمل إرهابي استهدف المملكة في الداخل أو مصالحها في الخارج، خاصة أن مؤسس الثورة آية الله الخميني أقسم بأنه «قد يتنازل عن القدس، ويتسامح مع صدام حسين، ولكنه لن يسامح السعودية».



عام 2003 قال الجنرال الأمريكي وقائد حلف شمال الأطلسي في البلقان والمترشح للرئاسة الأمريكية لعام 2004 في محفل انتخابي إنه لا يصدق أن تنظيم القاعدة لديه الإمكانية الفنية واللوجستية لتنفيذ أحداث 11 سبتمبر 2001 دون تدخل طرف ثالث. ملمحا إلى وقوف دول خلف الهجوم. وبحساب الرابحين والخاسرين فإن السعودية كانت الخاسر الأكبر، يليها الأمن العربي، ثم الاستقرار العالمي. أما الرابح الأكبر فهو دون أدنى شك كان إيران؛ فقد تسلمت العراق بعد الإطاحة بصدام ومن ثم قتله، ووصلت طهران ببيروت مرورا ببغداد ودمشق، ووقعت اتفاقا نوويا مع أمريكا. فهل كان علينا أن ننتظر 15 عاما للوصول إلى هوية المستفيد الأول من هجمات 11 سبتمبر 2001؟



التعرف على الدولة التي وقفت خلف هجمات سبتمبر 2001 بدأ -مصادفة- عندما شكل الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش الابن لجنة وطنية مستقلة للتحقيق في تلك الهجمات، (لجنة 11 سبتمبر - 9/11 Commission) للتحقيق في تقصير الأجهزة الأمنية الأمريكية. أعلنت اللجنة عام 2005 تقريرها بعد أن حجب البيت الأبيض 28 صفحة قيل إنها تتعلق بدور سعودي ما. وفسر الحجب بأنه خوف ومجاملة للسعوديين. وعلى مدى 10 سنوات توالت المطالب والضغوط على الإدارة الأمريكية بنشر تلك الصفحات. وطالبت المملكة بذلك أيضا على لسان عدد من مسؤوليها.



لم يوافق الرئيس بوش على رفع السرية، وتمسك الرئيس أوباما بالنهج نفسه حتى منتصف عام 2015 عندما سمح لوكالة الاستخبارات الأمريكية CIA بنشر تلك الصفحات على موقعها. وخلصت توصية اللجنة إلى أنها «لم تجد أي دليل على أن السعودية قد مولت بعلمها كدولة أو ساعدت تنظيم القاعدة في الفترة التي سبقت 11 سبتمبر 2001». وبذلك برز سؤال كبير: لماذا أخفيت تلك الصفحات بقرار رئاسي في إدارتين جمهورية وديمقراطية؟ مبرران لاثالث لهما -من وجهة نظري-؛ أولهما، مواصلة ابتزاز السعودية لتقديم المزيد من التنازلات، وثانيهما، التغطية على فشل الجهاز الأمني الأمريكي الذي أخفق في حماية أمريكا.



ثم حصحص الحق أخيرا، ففي التاسع من مارس 2016 أصدر القاضي الفيدرالي في المحكمة الجزئية بمانهاتن في نيويورك جورج دانيلز حكما بإلزام إيران بدفع 10.5 مليار دولار تعويضات لضحايا هجمات سبتمبر 2001. الحكم بالتعويض جاء بعد خمس سنوات من الحكم الذي دان إيران بتورطها المباشر -شراكة مع حزب الله- بالتخطيط والتنفيذ لذلك العدوان. ومنذ صدور حكم الإدانة بتاريخ 15/12/2011 حتى صدور حكم التعويض لم تستطع إيران أن تبرئ ساحتها أو تكذب الأدلة المقدمة ضدها.



كان يمكن للحقيقة أن تبقى غائبة إلى الأبد لولا أن أسر الضحايا كانت عازمة على الوصول إليها مهما كلفهم الأمر. استعانوا بمحققين خاصين، ومحامين أكفاء وجمعت معلومات من الداخل الأمريكي ومن أوروبا والأرجنتين وغيرها. وحشد الشهود والخبراء في محاولة لمعرفة من يقف خلف تلك الأحداث. النور الذي لاح في آخر نفق اليأس كان عبارة وردت في الصفحة 241 من تقرير اللجنة الوطنية نصت على أن المحققين يعتقدون أن «هذا الموضوع يتطلب مزيدا من التحقيق من قبل حكومة الولايات المتحدة الأمريكية». وكان هذا من حسن حظ المملكة والعدالة. لم تذهب الجهود سدى؛ ففي حكم تاريخي بني على حقائق دامغة أصدرت المحكمة الاتحادية الجزئية في مانهاتن بنيويورك في ديسمبر 2011 حكمها القاضي بأن «إيران وحزب الله متورطان بشكل مادي مباشر في دعم تنظيم القاعدة لتنفيذ هجمات 11 سبتمبر 2001، ومسؤولان قانونيا عن الأضرار التي لحقت بمئات من أسر ضحايا المدعون في القضية». وفشل دفاع المتهم (إيران) في تفنيد الأدلة فصدر في 53 صفحة أن «جمهورية إيران الإسلامية، وقائدها الأعلى آية الله علي حسيني خامنئي، والرئيس الإيراني السابق علي أكبر هاشمي رفسنجاني، وفيلق الحرس الثوري الإيراني، ووزارة الاستخبارات الإيرانية والأمن، وحزب الله، ساعدوا ودعموا ماديا تنظيم القاعدة قبل وبعد الهجمات».







لماذا إيران وليس السعودية؟







كيف تولدت لدى القاضي هذه القناعة القانونية التي مكنته من إصدار الحكم على إيران وليس على السعودية؟.. لقد استعرض القاضي الأدلة التي كانت كافية لصدور الحكم بالإدانة تمهيدا للحكم بالتعويض، وذلك على النحو التالي:











• شهادة عشرة من الخبراء؛ بينهم ثلاثة أعضاء إداريين سابقين في اللجنة الوطنية للتحقيق، واثنان من الضباط السابقين في وكالة الاستخبارات المركزية CIA، واثنان من الصحفيين الاستقصائيين، ومحلل سياسي إيراني سبق له أن شهد في 25 قضية تتعلق بالإرهاب الإيراني.



• شهادة ثلاثة منشقين إيرانيين كانوا يعملون لصالح وزارة المخابرات والحرس الثوري. من ضمنهم أبو القاسم مصباحي الذي يوصف بأنه المسؤول عن عمليات التجسس الإيرانية في أوروبا الغربية. وقد تأكد للقاضي أن مصباحي سبق أن شهد في العديد من محاكمات الإرهابيين الإيرانيين، وحزب الله، في ألمانيا والأرجنتين، وكانت المعلومات التي أدلى بها موثوقة للغاية وذات مصداقية. وبناء على تلك المعطيات صادق القاضي على المعلومات التي أدلى بها مصباحي والتي تضمنت أنه تلقى في صيف 2001 رسائل من داخل الحكومة الإيرانية، وأنه كان فردا من القوة التي أوكل إليها الحرس الثوري ووزارة المخابرات تصميم مخطط لحرب «غير تقليدية» محتملة ضد أمريكا، وكانت الشفرة «حرق الشيطان» (Satan in Flames) وتضمنت الخطة اصطدام طائرات ركاب مخطوفة بمركز التجارة العالمي، ووزارة الدفاع، والبيت الأبيض. وخلال الأسابيع التي سبقت الهجمات تلقى مصباحي ثلاث رسائل مشفرة من مصدر داخل الحكومة الإيرانية يبلغه فيها بأن الخطة قد تم تفعيلها.



• شهد مصباحي أيضا أنه في عام 2000 استخدمت إيران شركات وهمية للحصول على جهاز محاكاة قيادة طائرات بوينج لتدريب الإرهابيين. مشيرا إلى أن إيران بسبب العقوبات الأمريكية المفروضة عليها لم تكن لديها أي طائرات بوينغ من طراز 757-767، والجدير ذكره أن جميع الطائرات المخطوفة والمستخدمة في تنفيذ الهجوم هي بوينج من هذا الطراز. فهل كان التدريب الذي حصل عليه الإرهابيون كافيا للتحليق بتلك الاحترافية أم أن إيران قتلت أصحاب الجوازات واستبدلت بهم عملاء إيرانيون محترفون لتنفيذ العملية؟ هذا الافتراض يصعب تأكيده أو نفيه إلا عن طريق تحليل الحمض النووي وهو أمر متعذر لعدم وجود أشلاء.



• المستغرب الذي لا يقل غرابة عن غيره في هذه الأحداث أن القاضي الأمريكي تنبه إلى ما لم تعره الأجهزة الأمريكية أو الإعلام اهتماما في تقرير اللجنة عن تلك الهجمات؛ حيث شهد أمام المحكمة أعضاء سابقون في اللجنة بأن إيران أخفت سفر الانتحاريين وتنقلاتهم عبر أراضيها للوصول إلى معسكرات تدريب القاعدة في أفغانستان. كما أن مفتشي الحدود الإيرانيين لم يختموا جوازات السفر لثمانية من الخاطفين، وذلك لأن مهر جوازاتهم بختم الدخول أو الخروج من إيران سوف يمنع حصولهم على تأشيرات من السفارات الأمريكية في الخارج، وقد تناول التقرير هذه الحقائق وطالب بالمزيد من التحقيق في الصفحتين 240، 241.



• أكد الخبراء، وكذلك الأدلة التي تملكها الحكومة الأمريكية أن إيران سهلت هروب قادة القاعدة وأعضاء من التنظيم من أفغانستان إلى إيران وتوفير ملاذ آمن داخل إيران بعد الهجمات وأثناء اجتياح أمريكا لأفغانستان.



• اطلع القاضي على مذكرة إيرانية رسمية مؤرخة في 14 مايو 2001 حصلت عليها إحدى الحكومات الأوروبية تثبت أن المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي كان على علم بهجمات وشيكة، وكانت تعليماته لعناصر الاستخبارات بحصر الاتصالات بخصوصها مع اثنين فقط هما أيمن الظواهري ممثلا لتنظيم القاعدة، وعماد مغنية من حزب الله. وبينت وثائق أخرى تم الحصول عليها من النيابة العامة الألمانية أن اليمني رمزي بن الشيبة -تم إلقاء القبض عليه في 11 سبتمبر 2002 في كراتشي، باكستان- سافر إلى إيران في يناير 2001 وهو في طريقه إلى أفغانستان للقاء أسامة بن لادن. وأشار أعضاء اللجنة الذين شهدوا في المحكمة إلى أن الإرهابي في حزب الله عماد مغنية كان موجودا بشخصه أو ممثله على الرحلات الجوية التي سافر عليها الخاطفون من وإلى بيروت وإيران. وقد اغتيل عماد مغنية في سوريا في فبراير من عام 2008.



لقد تغلبت إيران على الانقسام السني-الشيعي ووحدت إرهابيين من الطائفتين لتحقيق غاياتها، ووفقا لـ«روبرت باير» فإن إيران وحزب الله نظما دورات تدريبية لأعضاء تنظيم القاعدة على عمليات قتالية وعلى استخدام المتفجرات لتدمير المباني الكبيرة. وقاد التحالف المكون من إيران وحزب الله وتنظيم القاعدة هجمات إرهابية ضد الولايات المتحدة في أبراج الخبر بالمملكة العربية السعودية عام 1996، وتفجيرات السفارة الأمريكية المتزامنة في كينيا وتنزانيا عام 1998، واستهداف السفينة الأمريكية يو إس إس كول في اليمن عام 2000، وبعد وقت قصير من الهجوم على كول، بدأت إيران تسهيل السفر الدولي لمنفذي الهجمات الإرهابية على التراب الأمريكي.







خاتمة



اليوم حصحص الحق، ومن حقنا أن نتطلع إلى إجراءات سعودية، ودولية ضد إيران، هذه الدولة التي تنصبها أمريكا على رأس قائمة الدول الراعية للإرهاب، ثم تأتي وتطلب منا تقاسم المنطقة معها رغم تاريخها الإرهابي وأنها الدولة التي قتلت أكبر عدد من الأمريكيين قبل هجمات 11 سبتمبر 2001. لقد صدق الرئيس باراك أوباما عندما عيرنا بأن إيران تعرف ما تريد، ولا غرابة والحال هذه أن تكون إيران قد تغلبت في الشر على أمريكا أو أن الطرفين عملا عن قرب من أجل استهداف المملكة العربية السعودية والمنطقة.





*باحث وكاتب مهتم بالشؤون السعودية الأمريكية