-A +A
صدقة يحي فاضل
كتب الدكتور هنري كيسنجر، أستاذ العلاقات الدولية ووزير الخارجية الأمريكي الأسبق الشهير، مؤخرا مقالا لقي صدى واسعا في الأوساط السياسية والإعلامية العربية والعالمية، يبرر التوقف عند بعض مضامينه، لصدوره من هذا الأكاديمي والسياسي، الذي صال وجال كثيرا في فضاء السياسة العالمية والإقليمية والعربية في فترة السبعينات من القرن الماضي.
طغى الشعور الصهيوني الإمبريالي العسكري على رؤية كيسنجر وتحليله للأحداث، خاصة تلك المتعلقة بالمنطقة العربية. فقد كتب ناصحا المسؤولين الأمريكيين بما ينبغي عليهم أن يعملوه تجاه روسيا والصين، والشرق الأوسط بعامة، مضمنا ذلك فكرا رغبويا واضحا، يتجلى في تحليله الإرشادي، وتوصياته التي تعبر عن ميوله، وليس بالضرورة عما هو كائن من حقائق على الأرض.

وسوف نناقش باختصار فيما يلي أفكاره عن: احتمال نشوب الحرب العالمية الثالثة القريب جدا (طبول الحرب تدق) ومسألتي انتصار أمريكا وإسرائيل الساحق في هذه الحرب -كما قال.
***
بالنسبة لاحتمال اندلاع الحرب العالمية الثالثة: صحيح، أن هذا الاحتمال وارد دائما.. ووارد جدا الآن. ولكن، لا توجد -حتى الآن- بوادر تؤكد قرب نشوب هذه الحرب، بما في ذلك ما يجري حاليا على الساحة السياسية لمنطقة الشرق الأوسط. ربما لو حصل تصعيد أكبر في هذه المنطقة بالذات، فإنه سيشعل (لا سمح الله) هذه الحرب.. على غرار الشرارة التي أدت لاندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939م، التي تمثلت في هجوم ألمانيا على بولندا.
وباعتبار ما لدى أطراف هذه الحرب المحتملة من أسلحة دمار شامل، وبخاصة السلاح النووي، فإن الحرب العالمية الثالثة غالبا ما ستنتهي بتدمير كل العالم، أو معظمه. فما لدى أمريكا وروسيا من السلاح النووي يمكن أن يدمر العالم ككل، بما يعادل ست مرات، وليس مرة واحدة..؟! وبذلك، يصعب تصور إقدام قادة الدول المعنية على خوض حرب فناء مجنونة.. لا تبقي ولا تذر.
***
وبالنسبة لـ«انتصار أمريكا»: صحيح أيضا أن أمريكا ليست فقط قوة عظمى (Super Power) وحسب، بل يمكن الآن اعتبارها قوة هائلة (Hyper Power). فهي تمتلك من الأسلحة أفتكها، وأشدها دقة وتدميرا. ولكن أمريكا تواجه طرفا يمتلك ترسانة هائلة من أسلحة الدمار الشامل، وخاصة النووية.. كما أن لدى هذا الطرف (الروسي – الصيني) إمكانية توجيه «الضربة الثانية» (Second Strike) أي القدرة الجبارة على امتصاص الضربات الأولى (المبادرة) من الخصم، وتوجيه ضربات رد فعل ضده. وهذا يعني أن أمريكا ستتعرض أيضا لدمار شامل، ولن تنجو هي الأخرى من التدمير التام، أو شبه التام. وإن نجا جزء من أمريكا، فإن وقوفه على قدميه، وتمكنه من «قيادة العالم الجديد»، سيستغرق عقودا طويلة.
وهناك مناطق (دول) من العالم قد لا يصيبها دمار شامل، من حرب عالمية ثالثة شاملة التدمير.. قد يكون منها: أستراليا، وبعض بلاد أمريكا الجنوبية، وأفريقيا، التي قد تجد نفسها فجأة وقد نجت جزئيا، أو كليا، وربما تصبح هي القوى الدولية الجديدة.. باعتبار عدم وجود أقوى منها، بعد تلك الحرب..؟!
***
أما بالنسبة لـ«استيلاء إسرائيل على نصف الشرق الأوسط»: فهي -في رأيي- مبالغة كيسنجرية، نابعة من صهيونية كيسنجر، ودعمه لإسرائيل. هو يرى أن إسرائيل ستهاجم العرب و«تقتل منهم أكبر عدد ممكن». ثم تستولي على حوالى «نصف منطقة الشرق الأوسط».. متناسيا أن إسرائيل عبارة عن جيش لديه دولة، لا دولة لديها جيش. وهذا الجيش يمتلك ترسانة كبيرة من الأسلحة النووية (حوالى 300 رأس) وغيرها من سلاح الدمار الشامل. ولذلك، فإن الانتصار العسكري المؤقت والعابر لإسرائيل على الأرض أمر متوقع. ولكن هذه الإسرائيل ليست سوى كيان كريه عابر. إذ يتوقع أن تهاجم الشعوب العربية والإسلامية المتبقية الكيان الصهيوني لما يرتكبه من جرائم يندى لها جبين الإنسانية، ضد الفلسطينيين، والعرب.
ومعروف أن هذه الشعوب تحمل غبنا دفينا تجاه إسرائيل. ولولا الاحتياطات الأمنية التي تحاط بها إسرائيل منذ قيامها، لاندفع نحوها الآلاف رغبة في الاقتصاص، وانتقاما لضحايا العدوان الصهيوني. وهذه الحرب، إن اندلعت، ستتيح مهاجمة إسرائيل، كما لم تتحه من قبل. لن تهنأ إسرائيل -كما يتوقع- بأي نصر عسكري طارئ. فقد تعني حرب كهذه نهاية الكيان الصهيوني العدواني المصطنع، بعيد انتهاء هذه الحرب.
ختاما، يصعب تصور اندلاع حرب عالمية ثالثة في المدى القريب. ولو قامت هذه الحرب فإنها غالبا ما ستعني تدمير كل أطرافها المباشرين تدميرا هائلا. ولن تكون حربا كهذه فرصة لإسرائيل لتتوسع، وتهيمن أكثر. إسرائيل لا يمكن أن تسيطر على المنطقة أكثر إلا بالوسيلة السياسية، المتمثلة في سعيها الدؤوب لتجزئة دولها أكثر. عدا ذلك يمكن اعتباره «تخاريف» قال بها العجوز هنري «بيه» كيسنجر.