-A +A
قراءة: د. عبدالله المدني *

حسنا فعل مركز الدراسات والبحوث الكويتية في عام 2014 بتقديم طبعة منقحة وموسعة لكتاب «أبناء السندباد» من تأليف الرحالة والصحفي والمصور والبحار الأسترالي ألن فلييرز، والذي قام بترجمته الدكتور نايف خرما الرئيس الأسبق لقسم اللغة الإنجليزية بجامعة الكويت، فيما قام بمراجعته الباحث الدكتور يعقوب يوسف الحجي، علما بأن هذا الكتاب صدر لأول مرة عن مطبعة حكومة الكويت في عام 1982.
وبطبيعة الحال لا يمكن لنا في هذه المساحة المحدودة أن نستعرض كل ما ورد في هذا السفر التاريخي/الاجتماعي الهام، خصوصا أن عدد صفحاته يتجاوز الستمائة صفحة. لذا سنسرد تلك المقتطفات الخاصة بيوميات المؤلف في أعالي البحار، وعلاقته مع البحارة والنواخذة الذين سافر معهم أو احتك بهم، ناهيك عن مغامراته، ودوافعه، وتساؤلاته، ووصفه للموانئ التي زارها.
على أنه من المفيد، قبل ذلك، أن نتعرف على «ألن فلييرز» الأسترالي الجنسية الذي بدأ رحلته البحرية من ميناء عدن في بداية ديسمبر 1938، ولد في ملبورن في عام 1903 وتوفي في عام 1982 في أكسفورد البريطانية. وهو الابن الثاني ضمن ستة أبناء لعائلة فيكتورية كان ربها «ليون جوزيف فلييرز» يعمل سائقا لـ «الترام» ويقرض الشعر ويدافع عن الطبقة العاملة بسبب إيمانه بالأفكار الاشتراكية.
وفي عام 1922 تعرض لحادث أثناء قيادته لإحدى السفن فجُرح، الأمر الذي أبعده عن البحر مؤقتا، ودفعه لتعلم الآلة الكاتبة والاختزال في إحدى مدارس إدارة الأعمال ومن ثم البحث عن وظيفة صحفي لدى صحيفة «هوبرت ميركوري» في جزيرة تاسمانيا بجنوب أستراليا. لتمر الأيام، ويشفى فلييرز من جروحه ويعاوده الحنين لركوب البحر، فيقوم في عام 1932 بشراء سفينة شراعية قديمة (صنعت في عام 1882) من الدانمارك ليبحر بها حول العالم مع مجموعة من الشباب بهدف تعليمهم الملاحة وأساليب قيادة السفن الغربية. وقد لخص الرجل هذه التجربة المثيرة، التي استغرقت مدة سنتين، في واحد من كتبه الأربعة والأربعين، نشره في عام 1934 تحت عنوان «رحلة السفينة كونراد».
في عام 1938 ركب البحر مجددا لكن هذه المرة بصحبة العرب وعلى ظهر سفينة من سفنهم التقليدية، وبغرض الوقوف على الطرق الملاحية التي يستخدمونها في رحلاتهم الموسمية في بحر العرب وغرب المحيط الهندي. ولأنه كان آنذاك عضوا في «الجمعية الملكية الجغرافية» البريطانية فقد سهلت الأخيرة مهمته وأمدته بكل ما يلزمه للوصول إلى ميناء عدن، معطوفا على بعض التوصيات لمساعدته على إتمام مهمته الاستكشافية بنجاح.
ووفقا لكتاب أبناء السندباد، وصل فلييرز إلى عدن في أواخر 1938، ولجأ إلى مكتب التاجر الكويتي خالد عبداللطيف الحمد وإخوانه، حيث قدمه التاجر علي الحمد إلى علي بن ناصر النجدي «نوخذة» السفينة الشراعية الكويتية، أو البوم «بيان» الذي كان راسيا في عدن ومتأهبا لاستكمال رحلة موسمية بدأت من الكويت إلى شط العرب، ثم مسقط، فعدن، فموانئ الساحل الشرقي لأفريقيا، ثم العودة إلى الكويت.
ويقول الدكتور الحجي في مقدمته للترجمة العربية للكتاب أنه تم التعارف بين فلييرز والنوخذة علي النجدي، لكنه لوحظ منذ الوهلة الأولى عدم وجود مودة بين الإثنين لأن النوخذة الكويتي لم يكن محبذا لوجود قبطان أجنبي غريب على ظهر سفينته، فضلا عن أنه كان حادا في طباعه، معتدا بنفسه، كارها لذوي المعتقدات المخالفة لعقيدته.
ويضيف الحجي: «لهذه الأسباب تعمد فلييرز إظهار النوخذة بصورة غير مرضية وتصيد هفواته، وتكوين صورة غير حقيقية عن بحارته وسلوكياتهم، وإطلاق بعض التعميمات الجائرة والمتسرعة عليهم».
لكن الحجي يلتمس العذر لفلييرز ويخبرنا عما طرأ من تغيرات حول رؤيته للعرب لاحقا في الصفحتين 27 و28 فيقول (بتصرف): «لابد من تلمس الأعذار لهذا القبطان الذي كتب لنا هذا الكتاب القيم. فقد كان شابا حينئذ لم يتجاوز الخامسة والثلاثين من عمره، ولو أنه كان أكثر نضجا، أو أنه قد ركب مع نوخذة أكثر تعقلا وسعة صدر فلربما كان أكثر موضوعية وصدقا في حكمه على العرب وسفنهم وقباطنتهم وبحارتهم... ولقد منع قيام الحرب العالمية الثانية فلييرز من القيام برحلة مع نوخذة كويتي آخر إلى الساحل الهندي الغربي، وكتابة تفصيل هذه الرحلة في كتاب آخر». ثم يضيف (بتصرف): «لكن الزمن يتغير ونحن نتغير تبعا له، فالقبطان فلييرز الذي كتب (أبناء السندباد) في عام 1940 ليس هو الكاتب نفسه الذي سعدنا بلقائه في منزله في مدينة أكسفورد البريطانية عام 1979. لقد أتاح الزمن لهذا القبطان المسن حينئذ أن يراجع الأشهر الأربعة التي قضاها مع العرب في سفنهم، وأن يعيد النظر في رحلته التاريخية هذه معهم، فأصبح نتيجة لذلك أكثر إنصافا وعدلا في حكمه عليهم وعلى سفنهم وبحارتهم ونواخذتهم». ويختتم الحجي بالقول: «حين زار هذا القبطان الكويت للمرة الثانية عام 1967، وأحسن النوخذة علي النجدي استقباله وكذلك أصدقاؤه من الكويتيين، ترك هذا انطباعا مختلفا في نفسه فكتب مقدمة جديدة للطبعة الثانية من كتابه (نشرت في نيويورك في عام 1969) بدا فيها أكثر موضوعية وأصدق حكما عما كان عليه من قبل، وأكثر امتنانا وتقديرا لتراث الكويت والعرب الملاحي، وتحسرا على ضياع هذا التراث الذي قضى عليه اكتشاف البترول في الكويت والخليج».


..والعرب «كتومون» ومتفوقون في «الإبحار»



يقول فلييرز في كتابه إنه وضع برنامجا مدته خمس سنوات للإبحار في المياه الشرقية، بمعنى أن يبدأ الإبحار مع العرب، لعلمه أن العرب «مازالوا يحتفظون ببعض تفوقهم السابق في الملاحة في المناطق الاستوائية من المحيط الهندي، ذلك التفوق الذي لم يتغير نسبيا لمدة ألفي سنة، والذي ورثوه مباشرة عن الفينيقيين واستمروا فيه بالرغم من اكتشافات فاسكو دي جاما وشق قناة السويس، واستخراج النفط العراقي والإيراني».
أما ما ألحّ عليه الإقدام على تجربته المثيرة مع العرب فهو عدم توفر معلومات أو مراجع تفصيلية مكتوبة عن الملاحة العربية، لا في العهود الحديثة ولا في العهد القديم، ما يعزوه إلى «أن البحارة العرب كانوا من النوع المتكتم لأسباب وجيهة، فقد احتفظوا لأنفسهم بأسرار المهنة التي كانوا قد تعلموها بشق الأنفس حتى أنهم لم يتركوا أثرا واحدا يوثق به عن السفينة الفينيقية القديمة. أما الرحالة العربي ابن بطوطة في القرن الرابع عشر فقد كان مهتما بالناس والجغرافيا أكثر من اهتمامه بالسفن والملاحة، وقام بمعظم رحلاته برا، وهذا ينطبق على باقي الرحالة المسلمين المعروفين». والمعروف أن فلييرز لم ينجز إلا جزءا بسيطا من برنامجه الملاحي في آسيا بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية واستدعائه للخدمة العسكرية ضمن جنود الاحتياط في الأسطول الملكي البريطاني، حيث شارك في معارك نورماندي وغزو صقلية وحملة بورما. ولأنه أبلى بلاء حسنا في المهمات العسكرية التي أوكلت إليه فقد تمت ترقيته إلى رتبة قائد ومنح وشاح الخدمة المتميزة. وبعد انتهاء الحرب استقر في مدينة أكسفورد مع زوجته الثانية نانسي، لكن دون أن ينقطع عن شؤون الملاحة والمراكب الشراعية. إذ حرص على المشاركة في كل سباقاتها ومعارضها ومشاريعها، إلى جانب الكتابة المستمرة عنها في مجلة «ذ ناشيونال جيوغرافيك» خلال عقدي الخمسينات والستينات.
لقد كان متاحا لفلييرز أن يسافر على ظهر سفينة بخارية مريحة ويجاور ركاب أوروبيين أو آسيويين يجيدون لغته ويؤمنون بنفس عقيدته فينسجم معهم مثلما فعل في رحلات بحرية سابقة له مع بحارة آخرين لكنه أرادها هذه المرة رحلة تحد وإبحار في المجهول ليعيش المغامرة.


تنقل بـ«الشيخ منصور» رغم «الدوسنطاريا»


ويعزو فلييرز تعاون عائلة الحمد الكويتية معه في عدن أيضا إلى مساعدة السير ويليام الذي كتب لهم عنه، علما بأن عائلة الحمد كانت تتكون من خالد ويوسف وأحمد وعلي وعبدالله أبناء عبداللطيف الحمد، وكان مركز تجارتهم هو الكويت مع فرع في عدن يديره علي وعبدالله الحمد، وفروع أخرى تحت إدارة بقية الإخوة في العراق والهند وإيران وعسير والحجاز، مع نشاط تجاري يمتد «من جدة، وهي ميناء مكة، إلى بربرة في الصومال البريطاني آنذاك، ومن أديس أبابا في داخل الحبشة إلى المكلا والشحر في حضرموت» وصولا إلى كل ميناء صغير أو كبير على جانبي البحر الأحمر. التاجر علي عبداللطيف الحمد الذي بدا وكأنه يحاول اختبار بأس فلييرز وقوة تحمله أولا قبل أن يضعه على المركب المناسب ويوكل أمره إلى أحد النواخذة المعروفين، الذي أمره أن يعمل على سمبوك يدعى «الشيخ منصور»، متجها بحمولة بضائع من ميناء المعلا إلى ميناء جازان تحت قيادة نوخذة يمني نحيف قوي البنية ومساعد «وحشي المظهر» وأربعة بحارة عجائز «وتركي عجوز أشيب من بقايا الحرب العالمية الثانية». ويصف فلييرز: سنبوك «الشيخ منصور» كان يبدو من بعيد مركبا صغيرا رشيقا ذا منظر بديع، لكنه في الحقيقة كان واحدا من أسوأ المراكب حيث كانت رائحته نتنة، والمياه تنفذ إلى داخله من كل الجوانب، هذا عن المركب، أما عن الرحلة فيصفها بالاعتيادية ويقول (بتصرف): «كنا نسير بالقرب من الشاطئ، ونتاجر بالسلع التي نحملها، ونرسو ليلا بحماية الصخور المرجانية أو الجزر الرملية، ونسترشد بخبرة النوخذة اليمني لطيف المعشر، وكان الطقس جيدا والرياح مواتية والبحر خفيف الموج، وكان غذاؤنا يتألف من السمك وشيء من الأرز والخبز المعد بواسطة وقود من الأخشاب وحشائش البحر المجففة وروث الجمال وغيرها.. وكنا نغتسل بمياه البحر، وكان الجميع في منتهى النظافة، يتوضؤون ويؤدون الصلاة وينظفون أسنانهم بالسواك ويحرصون على غسل أواني الأكل المصنوعة من الخيزران أو عظام الأسماك.. كانت الليالي باردة والأيام طويلة وحارة، وكنت أقاسي من الزحار (الدوسنطاريا)، لكني تعلمت أن أحترم النوخذة وبحارته». بعد عدة أسابيع من تلك الرحلة عاد فلييرز الى عدن قادما من جدة وقد ذبل عوده وأنهكت قواه ولفحت الشمس وجهه ليقابل التاجر علي الحمد الذي سأله عما إذا كانت رحلته إلى جازان ممتعة، فكان رده بالإيجاب، وهو ما أعطى انطباعا للحمد أن الأسترالي قد مرة بعدد من التجارب وليست تجربة واحدة. حينذاك فقط قال له الحمد (بتصرف): «حسنا، الكويتيون مستعدون الآن، وسأعمل الترتيبات لك لتقوم بالرحلة الأفريقية على متن بوم يقوده واحد من أفضل نواخذة الكويت هو علي بن ناصر النجدي الذي يمكنك أن تبقى معه ستة أشهر حتى وصولك إلى الكويت لتقوم بعدها برحلتك إلى الهند إنْ أردت».
* أستاذ العلاقات الدولية من مملكة البحرين