-A +A
تركي العسيري
أعرف بداهة أن القضاء هو ميزان العدالة الذي لا حصانة لأحد أمامه مهما علت به الرتب.. هكذا يفترض، وأعرف أيضاً أن المبررات التي يدلي بها المتهمون وأقاربهم.. قد تمثل جانباً من الحقيقة وليست الحقيقة كلها، فهناك أشياء يراها القاضي ويستنتجها بخبرته وعلمه وتمرسه تغيب عنا؛ ومع ذلك فنحن نريد الحقيقة المجردة دون حيف أو انتقاص أو تزييف. سأشير هنا إلى قضيتين طفتا فوق «سطح» الصحف في الفترة الأخيرة.. أولاها ما أورده مندوب «عكاظ» في عرعر: بأن ديوان المظالم بالجوف قد أصدر حكماً على ضابط وأربعة جنود تسببوا في وفاة مواطن.. بالسجن «ستة أشهر» لسوء استخدامهم السلطة!! القضية الثانية وهي المشهورة بقضية المفحط «أبوكاب».. والذي صدر حكم بإعدامه لتسببه في وفاة ثلاثة شبان في مقتبل العمر. هذان الحكمان اللذان تصدّرا الصحف خلال الفترة الماضية يجعلاننا نصاب بالحيرة فعلاً.. هذا بالطبع إذا افترضنا صحة ما أوردته الصحف من مبررات لصدور هذه الأحكام القضائية غير المسبوقة في كلتا القضيتين. أنا أعرف أن قضاتنا -وفقهم الله- طلاب علم مجتهدون، وأن الأحكام التي يصدرونها ليست أحكاماً نهائية.. بل هي أحكام قابلة للتمييز والنقض والإعادة. لكن السؤال الذي لا أفهم إجابته هو: كيف يصدر حكم مخفف (جداً) يمكن أن يصدر ضد أي جان عادي في تهمة عادية على ضابط وجنود تسببوا في وفاة مواطن -حسب إدعاء شقيق المتوفى- الذي أفاد أنه تعرض للضرب المفضي إلى الموت.. بستة أشهر فقط.. ومهما تكن الذرائع والمبررات.. بينما يتعرض «مفحط» شاب -ندينه وندين ما قام به من عمل ولا نقره إطلاقاً- إلى الحكم بالإعدام رغم أنه نفسه لم يكن بمنأى عن الموت مع الشبان الثلاثة. وحسناً فعلت لجنة حقوق الإنسان التي طالبت -كما نشرت الحياة- بإعادة الحكم على الضابط والجنود الذين تسببوا في وفاة المواطن المذكور في «الجوف». قد يكون في الأمر لبس.. لكن إذا كان الأمر كما ذكر شقيق المتوفى فإن ذلك يعد حكماً غير مسبوق البتة حتى في أكثر الدول تسامحاً مع الجناة.. وعلى وزارة العدل أن توضح الحقيقة كما هي.. فالمواطنون أمام القضاء يتساوون في الحكم القضائي عسكريين أو مدنيين، بل إن الجرم الذي يقترفه الموظف يقابل بأحكام رادعة باعتباره قد قام بذاك الجرم مستغلاً سلطته الوظيفية وإلا لما استطاع أن يفعل ذلك! قضاتنا بشر غير منزهين من الأخطاء أو الاجتهادات غير الموفقة كما هي طبيعة البشر ولذا كنا دائماً نطالب بتقنين الأحكام القضائية حتى تتضح الأمور، وتوضع الأحكام في نصابها القانوني والشرعي.. فلكل جرم جزاء معلوم، وقد أسعدني أن خادم الحرمين الشريفين وفقه الله قد أشار في خطابه التاريخي بمجلس الشورى إلى أنه سيضرب بالعدل هامة الجور والظلم، وأنه يسعى إلى تطوير القضاء.. كما أن معالي وزير العدل قد أشار إلى زيادة عدد القضاة وتطوير المحاكم وهو أمر محمود يصب في أقنية التحديث والتطوير الذي تسعى إليه بلادنا. وكما أننا قد أشدنا بالأحكام القضائية التي أصدرها قاضي محكمة «المويه» على بعض الجناة الشباب واعتبرنا تلك الأحكام -التي لاقت ترحيباً من كل فئات المجتمع- دليل وعي وزجر وإصلاح للمتهمين.. فإننا في الوقت نفسه نريد إجابة على الحكمين الصادرين في القضيتين اللتين طرحتهما في بداية المقال.. فنحن في النهاية مواطنون نحب بلادنا، ونثق في قضاتنا، ولكن في النفس «شيء» لن يبدده غير إجابة المسؤول عن العدل في محاكمنا.. حفظ الله لبلادنا عزها وأمنها ورخاءها.. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
تلفاكس 076221413