-A +A
نجيب الخنيزي
دفعت الحرب اليابانية- الصينية 1894/ 1895 والحرب الروسية- اليابانية 1904/ 1905 باتجاه تسريع التطور الرأسمالي، والجدير بالذكر أن الإمبراطور «ميجي» التي شكلت إصلاحاته أساس وقاعدة نهضة اليابان المعاصرة قد توفي في عام 1912 بعد فترة حكم استمرت 40 سنة. ومع تسارع نمو الرأسمال الاحتكاري المستند على القوة العسكرية للدولة حيث أخذ يوطد مواقعه بانتظام، وغدت رأسمالية الدولة الاحتكارية أمراً واقعاً، وترافق ذلك مع بدايات انبعاث التطلعات الإمبريالية التوسعية نحو الأسواق والمناطق المجاورة مثل كوريا وتايوان ومنشوريا، وقد كانت العملية سهلة نظراً لبعد الشرق الأقصى عن المراكز الرئيسية للغرب، وقد أدى ارتباط الرغبة في إقامة دولة قوية موحدة بالسياسات العسكرية إلى تورطها في نزاعات وعمليات عسكرية خارج الحدود، وفي عام 1899 ألغت اليابان المحاكم القنصلية الأجنبية، والمستوطنات (المحدودة) الغربية، وأعادت صياغة الاتفاقيات (انسي) المجحفة التي وقعتها في السابق مع الدول الغربية. وقد اعتمدت الصناعة العصرية في اليابان آنذاك على ركيزتين هما انتاج الأسلحة تحت إشراف الدولة، والقطاع الخاص الذي قام بتصنيع المنسوجات، وقد استفادت اليابان عندما نأت بنفسها عن التدخل إلى جانب أحد الأطراف المتحاربة أثناء الحرب العالمية الأولى، وعمدت إلى تطوير صناعتها الكبيرة وتسريع تركز وتمركز الإنتاج والرساميل مما أحدث تحولاً في علاقة القوى داخل الائتلاف الحاكم في اليابان لمصلحة القوى الاحتكارية التي أخذت تتوسع في التجارة والصناعة، وقد نجحت في منافسة الغرب نظراً للتكلفة الزهيدة جداً للعمال اليابانيين الذين كانوا يعملون ضمن شروط شبه استرقاقية، ولأنها استندت إلى صناعة عصرية وحديثة مقارنة بالمنشأة الصناعية الغربية القديمة، وقد استخدم قسم كبير من التراكمات بمساهمة مباشرة من الدولة لتصدير الرساميل وتقوية المواقع في الصين وكوريا والتحضير للحروب الإمبريالية، وبعد احتلال منشوريا عام 1931 اكتسب النظام السياسي سمات ديكتاتورية عسكرية وأصبحت آلة الدولة المتضخمة تجند كل الموارد الاقتصادية للتحضير للحرب التي دخلتها بالفعل إلى جانب ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية أثناء الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) وقد احتلت اليابان معظم مناطق الشرق الأقصى وجنوب شرق آسيا مثل الصين وتايوان وكوريا والفلبين والملايو والهند الصينية (فيتنام، لاوس، كمبوديا) واندونيسيا.. إلخ بل إنها هاجمت ولأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة أراضي أمريكية أو تقع ضمن السيادة الأمريكية وذلك حين دمر السلاح الجوي الياباني الأسطول الأمريكي في جزر بيرل هاربر مما عجل باتخاذ الولايات المتحدة لقرار إعلان الحرب ضد دول المحور (ألمانيا، إيطاليا، اليابان) غير أن التوسع والاحتلال الياباني لتلك الدول حفز وأجج المشاعر القومية، حيث اندلعت وتوسعت المقاومة الوطنية ضد الاحتلال، بل إنها وحدت بين الفرقاء (المتقاتلين) المحليين مثل المصالحة المؤقتة التي تمت بين قوات تشن كاي شك (الكومنتانج) وقوات ماوتسي تونغ (الجيش الأحمر) في الصين، وتوحيد جهودهما لمقاومة الاحتلال الياباني. لقد أسفرت الحرب العالمية الثانية عن هزيمة دول المحور ألمانيا (النازية) وايطاليا (الفاشية) واليابان (العسكراتية) واحتلالها على يد قوات الحلفاء وقد تعرضت اليابان إلى الهزيمة والإذلال والاحتلال الأمريكي، ومع أن اليابان كانت ساقطة ومهزومة بالمقاييس العسكرية وكانت على وشك الاستسلام ولكن الرئيس الأمريكي ترومان (ولأسباب مختلفة) قرر استخدام السلاح النووي لأول مرة في التاريخ ضد المدن اليابانية هيروشيما وناجازاكي مما أسفر عن مقتل وجرح وإعاقة مئات الآلاف في المدينتين المنكوبتين والتي لا تزال آثارها باقية لحد الآن. غير أن الولايات المتحدة غيرت سياستها تجاه اليابان من فكرة إضعاف خصمها اللدود في المحيط الهادي إلى محاولة تحويل اليابان إلى موقع رئيسي ومتقدم في إطار الاستقطاب (وبخاصة بعد نجاح الثورة الصينية بقيادة ماوتسي تونغ سنة 1948) الدولي الحاد فيما عرف بسياسة الحرب الباردة بين المعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة والمعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفيتي. لقد مرت اليابان في تاريخها الحديث بتحولين أساسيين هما: أولاً: القضاء على النظام الإقطاعي القديم والبدء في تنفيذ إصلاحات الميجي ابتداء من سنة 1886 وتطبيق سياسة التحديث والتكيف مع معطيات العصر، علماً بأن مخلفات وآثار الإقطاع لم تختفِ نهائياً إلا بانتهاء الحرب العالمية الثانية، إذ بقي شكل شبه إقطاعي لملكية الأرض وكذلك بنية الحكومة وسياسة الدولة ظلت تحتفظ ببعض سمات النظام الإقطاعي (الحكم المطلق) القديم وتم غرس عقيدة «الشنتو» في المجتمع واتخاذها بمثابة الدين الرسمي للدولة، رغم طابعها الأخلاقي- الدنيوي. ثانياً: في منتصف القرن العشرين على اثر الهزيمة الساحقة لليابان في الحرب العالمية الثانية وسعي اليابان للتغلب على آثار الدمار والخراب اللذين حلا بها، والنهوض مجدداً نحو تجديد وتطوير بنيتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتشييد مجتمع جديد قائم على المبادئ السلمية والمفاهيم الديمقراطية، اعتبرت من حيث نتائجها بحق ثورة برجوازية- ديمقراطية، وقد تم ذلك دون التخلي -إلى حد كبير- عن الجذور الحضارية والهوية الثقافية على الرغم من أن ضرورات ومستلزمات التغير قد فرضت على الشعب الياباني التخلي عن كثير من الأفكار التقليدية والعناصر والممارسات المحافظة والقديمة التي لم تعد تستجب لمتطلبات العصر.