-A +A
قراءة: د. عبدالله المدني *
في عام 1974 ظهرت على ساحة الأحداث منظمة إجرامية مسلحة تحت اسم « منظمة أبي نضال» بقيادة الفلسطيني صبري البنا الشهير بـ «أبو نضال»، والذي كان وقتها ممثلا لمنظمة التحرير الفلسطينية في بغداد. وكان أبو نضال قد انشق على حركة فتح في ذلك العام احتجاجا على بدء مشاريع التفاوض مع إسرائيل وفق القرار الدولي رقم 242. لكن حركة فتح سرعان ما اتهمته بتهمتي الاختلاس، وتنفيذ عمليات دون الرجوع إليها، وحكمت عليه غيابيا بالإعدام.
وهو ما جعله كالمسعور يضرب في كل مكان بوحشية، ويغتال زملاء الأمس من أمثال: عزالدين قلق في باريس، وسعيد الهمامي في لندن، وعصام السرطاوي في لشبونة، وصلاح خلف مع هايل عبدالحميد وعلي محمود العمري في تونس، ويعتدي على السفارات الأجنبية والفنادق السياحية والكنائس المسيحية في إيطاليا وباكستان وقبرص ومصر والنمسا وفرنسا، ويختطف الطائرات ويفجرها، ويعمل كمرتزق يبيع خدماته الإجرامية للأنظمة العربية الراديكالية في بغداد ودمشق وطرابلس الغرب.
وحينما أعلن في بغداد عن مقتله في ظروف غامضة عن 66 عاما بتاريخ 19 أغسطس 2002، كان قد خلف وراءه سجلا أسود به نحو 900 ضحية ما بين قتيل وجريح، وتشويها متعمدا لنضال شعبه الفلسطيني، وقائمة طويلة من الأعمال اللا أخلاقية وعمليات الابتزاز، ومزاعم فارغة كقوله لمجلة «دير شبيغل» الألمانية في عام 1985: «أنا روح الشر التي تتحرك في ظلمات الليل مسببة الكوابيس».
عند الساعة الـ11 من صباح يوم الثلاثاء 25 أكتوبر 1977 كان وزير الدولة للشؤون الخارجية في دولة الإمارات العربية المتحدة سيف بن غباش يرافق وزير الخارجية السوري الأسبق عبدالحليم خدام إلى مطار أبوظبي لوداعه. وعند دخول الوزيرين إلى الصالة الكبرى للمطار في طريقهما إلى قاعة الشرف انطلقت رصاصات غادرة أصابت الوزير الإماراتي في كتفه وبطنه، فتم نقله على عجل إلى المستشفى لكن إرادة الله كانت أسرع فتوفى متأثرا بجراحه، بينما نجا الوزير السوري لأنه انبطح أرضا لتجنب الرصاص.
في المطار ألقت قوات الأمن القبض على القاتل، وكان شابا فلسطينيا من جماعة «أبو نضال» المدعومة وقتذاك من نظام البعث في بغداد، والمؤتمرة بأمره. وعند استجواب القاتل زعم أن هدفه كان الوزير خدام وليس القتيل، وذلك على خلفية الصراع البعثي - البعثي ما بين بغداد ودمشق، وتداعياته على المنظمات الفلسطينية. لكن هذا التبرير للجريمة لم ينجه من الحكم عليه بالإعدام رميا بالرصاص.
وبطبيعة الحال، فإن الكشف عن هوية القاتل وانتمائه أحدث صدمة وقلقا، ليس فقط في أبوظبي وإنما أيضا في مختلف العواصم الخليجية؛ لأنها كانت المرة الأولى التي تصل فيها لوثة عقل بعض الأنظمة والمنظمات العربية إلى المدى الذي تستخدم فيها أرض دولة خليجية شقيقة مسالمة لتصفية حساباتها وخلافاتها ونزاعاتها الدموية.
في السنوات التالية، حينما بدأت جماعة «أبو نضال» بابتزاز بعض الأنظمة الخليجية ماليا تحت طائلة استهداف رموزها وأمنها ومنشآتها، تبين أن القاتل كان يستهدف فعلا الوزير سيف بن غباش، ليس بصفته الشخصية وإنما بصفته الرسمية، وذلك في محاولة حقيرة للضغط على دولة الإمارات من أجل الرضوخ والدفع. أما الدليل فهو أن المنظمة نفسها أقدمت في الثامن من فبراير 1984، أي بعد سبع سنوات من اغتيالها للوزير ابن غباش، على اغتيال السفير الإماراتي الشاب في باريس المرحوم خليفة بن أحمد بن عبدالعزيز المبارك (34 عاما) وهو عائد إلى منزله.
وإذا ما شئنا دليلا آخر فهو إقدام المنظمة نفسها على عمل جبان آخر تمثل في وضع حقيبة بها قنبلة موقوتة داخل مخزن الأمتعة في طائرة البوينغ 737 التابعة لشركة طيران الخليج في رحلتها رقم 771 المتجهة من كراتشي الباكستانية إلى الدوحة عبر أبوظبي.
علما بأنه بمجرد اقتراب الطائرة من مطار أبوظبي الدولي انفجرت القنبلة الموقوتة مما أدى إلى سقوط الطائرة في موقع صحراوي في 23 سبتمبر 1983، ومقتل كل ركابها وملاحيها البالغ عددهم 112 فردا. وعلى الرغم من تشكيك البعض في وقوف «جماعة أبو نضال» خلف هذه الكارثة الجوية، فإن ما أدلى به أخيراً «عاطف أبوبكر» العضو السابق في الجماعة والسفير الفلسطيني الأسبق في يوغسلافيا السابقة من اعترافات وشهادات أثناء ظهوره في برنامج «الذاكرة السياسية» من قناة العربية بدد كل شك.
لكن من هو الوزير سيف بن غباش الذي اختطفته يد الغدر وهو في عز شبابه، وأوج نشاطه الدبلوماسي في خدمة بلاده، فألحقت بالخليج كله خسارة لا تعوض، وسببت لوطنه وللخليج جرحا لا يندمل، كون القتيل لم يكن مجرد وزير عادي وإنما كفاءة استثنائية كانت دولة الإمارات في حاجة ماسة لها وهي في بدايات مسيرتها النهضوية.
للإجابة عن السؤال نستعين بما ورد في كتاب «سيف غباش، مسيرة العلم والسياسة» من تأليف الدكتور علي حميدان، الذي دخل التاريخ كأول سفير إماراتي، وأول مندوب للإمارات في هيئة الأمم المتحدة، ونستكمل بعض المعلومات الناقصة من مصادر صحفية متنوعة.
ولد سيف سعيد بن غباش المري في 21 أكتوبر 1932 في فريج «المعيريض» بإمارة رأس الخيمة، ابنا لتاجر اللؤلؤ سعيد بن غباش بن مصبح بن أحمد بن زايد بن صقر بن أحمد المنحدر من قبيلة «المــُرر»، وهي إحدى قبائل بني ياس وموطنها الأصلي منطقة الظفرة بإمارة أبوظبي. توفي والده وهو في سن الثانية عشرة، وتوفيت والدته بعد رحيل والده بثلاثة أشهر، فتولت رعايته جدته لأمه «آمنة بنت حسن البادي» التي عــُرفتْ بقوة شخصيتها وخبرتها في أمور التجارة.
بدأ سيف رحلته التعليمية في عام 1946 حينما درس أصول الدين والفقه واللغة العربية على يد الشيخ أحمد بن حجر أحد القضاة المعروفين في إمارة رأس الخيمة. بعدها ذهب إلى دبي لإكمال دراسته فعاش فيها ثلاث سنوات في كنف قريبته السيدة عوشة بنت حسين لوتاه (والدة الدكتورة موزة غباش والدكتورة رفيعة غباش)، التحق خلالها بالمدرسة الأحمدية، إحدى أوائل مدارس دبي التي قام بتأسيسها الوجيه أحمد بن دلموك الفلاسي، وكان في الوقت نفسه ملتحقا بإحدى المدارس الليلية المتخصصة في تعليم اللغة الإنجليزية. وفي عام 1948 قام بأول زيارة خارجية له، وذلك حينما طلبت منه جدته مرافقتها لأداء فريضة الحج في مكة بصحبة الشيخ سيف المدفع قاضي الشارقة آنذاك.
وفي خريف عام 1949 كان على موعد مع رحلة أخرى لكن مختلفة الوجهة والهدف. فقد سافر في تلك السنة بحرا إلى البحرين لاستكمال تعليمه الابتدائي والثانوي هناك بعدما نما إلى سمعه تفوق المناهج التعليمية البحرينية وانضباط مدارسها مقارنة بما كان في دول الجوار الأخرى.
في عام 1953 توجه ابن غباش إلى العراق لدراسة الهندسة. وبالفعل تمكن من الالتحاق بجامعة بغداد والتميز في دراسته، بدليل إتمامه دراسة سنتين في سنة واحدة. كما قـُدر له في هذه الفترة أن يتعرف على معظم التيارات الفكرية السائدة وأن يتماهى مع التيار الممثل للفكر العروبي القومي.
غير أن الظروف السياسية في العراق آنذاك، وتحديدا ملاحقة حكومة المرحوم نوري باشا السعيد، لرموز التيار القومي بـُعيد أحداث السويس، حالت دون إتمامه لسنته الثالثة في كلية الهندسة، حيث قـُبض عليه وتمّ ترحيله مع آخرين إلى القاهرة في عام 1956 وهو نصف مهندس.
ابن غباش لم يمكث في مصر طويلا، لأن جامعة القاهرة رفضت الاعتراف بشهادته الصادرة من جامعة بغداد، وبالتالي لم يتمكن من الاستفادة من منحة دراسية حصل عليها من المؤتمر الإسلامي لاستكمال تعليمه الجامعي.

ثقة الشيخ زايد بوابته للوزارة


بعد ذلك لعب شهيد الإمارات والخليج سيف بن غباش دورا محوريا في وضع لبنات دولة الإمارات العربية المتحدة وقت قيامها، وذلك من خلال توليه في عام 1972 منصب وكيل وزارة الخارجية بتزكية من معالي خليفة بن أحمد السويدي الذي دخل التاريخ كأول وزير لخارجية الدولة الفتية.
ثم أصدر الراحل الكبير سمو الشيخ زايد بن سلطان -طيب الله ثراه- في 25 ديسمبر 1973 مرسوما عهد بموجبه إلى ابن غباش حقيبة الدولة للشؤون الخارجية. وبحكم منصبه الجديد راح الرجل يستثمر علومه وتجاربه، وثقافته الواسعة في السياسة والاقتصاد والتاريخ والفلسفة واللغات الأجنبية، والعلاقات المتشعبة التي كونها في تأسيس قاعدة ديناميكية صلبة للدبلوماسية الإماراتية، وفي توطيد علاقة دولة الإمارات وتعزيز تعاونها مع الدول الشقيقة والصديقة في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، وفي الدفاع المحموم عن قضايا بلده وأمتيه العربية والإسلامية من فوق المنابر الدولية.
لقد كان ابن غباش من عتاة المدافعين العرب عن القضية الفلسطينية في كل المحافل، لذا فإنه من سخرية القدر أن يلقى حتفه بيد آثمة تنتمي إلى من كان ينافح عنهم.
قال عنه الشيخ زايد، الذي كان يكن معزة خاصة له ويثق به كثيرا، بعد سماعه نبأ اغتياله إنه: «مثال للرجل المسؤول في دولتنا.. وواحد من خيرة شبابنا ممن جاهدوا وسعوا لخير العرب ووحدة كلمتهم وتضامنهم». ونعاه حاكم رأس الخيمة الشيخ صقر بن محمد القاسمي بقوله إنه: «فلتة من فلتات الزمن، وقد عاد إلى بلاده في الوقت المناسب.. لقد كانت المسؤولية تنتظره كثمرة حان قطافها، فتحملها بكل جدية وكفاءة». وقال عنه معالي أحمد خليفة السويدي: «كان سيف رحمه الله دمث الخلق، لطيف المعشر، واسع الاطلاع، وكان شعلة من النشاط، وكان له دور كبير في تأسيس وزارة الخارجية». أما نحن فنقول، بناء على ما تقدم من سيرته العطرة: «إنه ملحمة من ملاحم كفاح أبناء الخليج من أجل العلم والمعرفة، ونموذج وضاء للبذل والعطاء والتفاني والإخلاص في خدمة أوطاننا وأمتنا، ومثال يحتذى في إدارة التفاوض والحوار وإعطاء الدبلوماسية الخليجية بعدا حضاريا ووجها إنسانيا».


تشرب الهندسة والفلسفة في «القارة العجوز»

وانتقل للعمل في الكويت، ثم هاجر ابن غباش في عام 1959 إلى أوروبا عن طريق بيروت من أجل التحصيل العلمي، فكانت محطته الأولى هي مدينة كراتس القريبة من فيينا في النمسا التي تعلم فيها الألمانية من خلال القراءة والاطلاع المكثف على روائع الأدب الألماني.
ويـُقال أنه حاول البقاء هناك ومتابعة تحصيله الجامعي في تخصص الهندسة، إلا أن ظروفه المادية لم تسعفه، خصوصا وأن أعباء المعيشة في بلد مثل النمسا كانت مكلفة. وعليه قرر أن يغادر الأخيرة إلى مدينة دسلدورف الألمانية للعمل كمساعد مهندس بناء في إحدى الشركات الألمانية الإنشائية ريثما يتجمع لديه مال يعينه على الوفاء بتكاليف الدراسة الباهظة. وبالفعل فقد بذل جهدا كبيرا في عمله وتمكن من توفير بعض المال، لكنه في هذه الأثناء وقع نظره على إعلان عن وظيفة هندسية شاغرة في سويسرا، فدخل المنافسة واستطاع بذكائه وخبرته المتراكمة أن يتفوق على كل المتقدمين لتلك الوظيفة. وخلال فترة عمله في سويسرا أتيحت له فرص عدة لزيارة روما فلم يتردد في اقتناصها، حيث ساهمت زياراته إلى هذه المدينة في تعلمه شيئا من اللغة الإيطالية، واطلاعه على الآداب والفنون الإيطالية الجميلة.
محطته التالية كانت باريس التي ارتحل إليها في عام 1963، ممنيا النفس بالاستقرار فيها من أجل إكمال تحصيله في حقل الهندسة والعمارة، غير أنه لم يوفق في مسعاه للحصول على منحة دراسية، فحوّل جهوده صوب تعلم اللغة الفرنسية وآدابها وفلسفاتها لمدة عام كامل انتقل على إثرها إلى الاتحاد السوفيتي، حيث كانت في انتظاره منحة مجانية للدراسة في جامعة لينينغراد للعلوم والتكنولوجيا.
في الجامعة الأخيرة قضى ابن غباش السنوات من 1964 إلى 1967 دارسا اللغة الروسية أولا ثم مناهج العلوم والتكنولوجيا إلى أن توّج مجهوده بحصوله على درجة الماجستير في الهندسة المدنية. لكن صاحبنا المتعطش للعلم والمعرفة لم يكتف بذلك، فعاد إلى باريس مجددا والتحق بجامعتها وحصل منها على درجة ماجستير أخرى في التكنولوجيا.
بعد عشرين عاما قضاها متغربا ومتنقلا بين العواصم العربية والأوروبية، قرر ابن غباش العودة إلى مسقط رأسه في رأس الخيمة في وقت كانت فيه الإمارات على وشك بدء مرحلة جديدة من تاريخها المجيد. فوصلها في عام 1967، حاملا أعلى الدرجات العلمية، ومسلحا بست لغات عالمية، إضافة إلى تجارب ثرية متراكمة. فعمل مديرا للإدارة الفنية في بلدية رأس الخيمة ثم رئيسا للمهندسين في دائرة أشغال حكومة رأس الخيمة. وأثناء ذلك رافق الشيخ صقر بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى/ حاكم رأس الخيمة، خلال زيارة سموه إلى بعض العواصم العربية والأجنبية، كما شارك ضمن وفد رأس الخيمة إلى محادثات الاتحاد التساعي والسباعي في السنوات القليلة التي سبقت انسحاب بريطانيا من المنطقة وإعلان استقلال دول الخليج العربية في العام 1971. هذا ناهيك عن مشاركته ضمن وفد رأس الخيمة لعرض قضية احتلال الجزر على مجلس الجامعة العربية في القاهرة عام 1971 حيث أعد خطابا بهذه المناسبة دافع فيه عن عروبة الجزر الثلاث مطالبا الجامعة العربية بعمل كل ما في استطاعتها لإنهاء الاحتلال الإيراني لهذه الجزر وإرجاعها لأصحابها الشرعيين.

* أستاذ العلاقات الدولية من مملكة البحرين