-A +A
علي العميم
إن تقويم أبي الحسن الندوي لمستوى رواد الأدب السعودي، لم يتجاوز الصواب كثيراً، لكنه قاله بغرضية عقدية. وتنكشف هذه الغرضية العقدية إذا ما نخلنا تقويمه استناداً إلى دعوى الإسلام الحركي الذي كان في منتصف القرن الماضي في العالم العربي غلاماً أمرد لم يصل سن البلوغ، نخلناه استناداً إلى منطقه هو الداعية والمنظر لذلك الإسلام في تلك الرقعة الجغرافية من العالم الإسلامي.
يأخذ أبو الحسن الندوي على رواد الأدب السعودي أنهم خاضعون لأدباء مصر وكتابها ومؤلفيها وباحثيها، مقتطفون منهم متطفلون على مائدتهم، ويأخذ عليهم أنهم يعتبرونهم أساتذة وقادة لا في الأدب والفكر فحسب، بل في التصور الإسلامي وفهم الدين.

لو كانت أعمال رواد الأدب السعودي تضاهي أعمال الأدباء الشوام والأدباء العراقيين، أصالة وإتقاناً، فإنه لن يجيز تأثرهم بأدباء مصر وكتابها ومؤلفيها وباحثيها والذي يسميه هو خضوعاً، ولن يجيز لهم اعتبارهم أساتذة وقادة لهم في الأدب والفكر.
فالأدب والفكر من وجهة نظره يجب أن يكونا في ركاب الدين، وأن يكونا مسخرين لخدمته، بالدعوة إليه، والمنافحة عنه، والتأكيد على تعاليمه، واستعادة روحانيته، وإعادة تقرير حقائقه، ولا شيء سوى ذلك.
هو وجد لنفسه الرخصة في أنه قرأ لأدباء مصر وكتابها ومؤلفيها وباحثيها، وأنه استفاد منهم، لكن ساءه أنه وجد أن الأدباء والمثقفين والكتاب في الحجاز قد قرأوا لهم، وصاروا يقتبسون منهم ويحاكونهم في بعض ما كتبوا. وجد لنفسه الرخصة في ذلك، لإيمانه بأنه محصن من التأثر الثقافي والفكري بهم، ومن محضهم الحب والافتتان، رغم تقديره الشخصي لمكانتهم الأدبية والعلمية. فلو ترك نفسه على سجيتها وأحبهم وافتتن بهم، لوقع حسب اعتقاده في مغبة الولاء لأناس تنكبوا طريق «الحاكمية»، وسلكوا طريق «الجاهلية».
من تركيب جملته يظهر أن مأخذ اعتبار أدباء مصر وكتابها ومؤلفيها وباحثيها أساتذة وقادة في الأدب والفكر، هو أقل شناعة وسوءا من المأخذ الذي جاء بعده، وهو اعتبارهم أساتذة وقادة في التصور الإسلامي وفهم الدين.
إثم وخطيئة «تصورهم الإسلامي وفهمهم للدين» عنده، هو أنه محكوم بمنطلق وأفق ليبرالي، يميز بين حدود الدين وحدود الدنيا، ويمايز بين ما هو زمني وما هو روحي. وكذلك كانت قبلهم المدرسة الدينية العقلانية الإصلاحية إلى حد معين، وكذلك كان السائرون على خطاهم من رجال الدين المعاصرين لهم.
وهذا «التصور الإسلامي والفهم للدين» التحرري المتسامح (أو الليبرالي)، هو الذي كان سائداً عند الأدباء والمثقفين العرب الذين كتبوا في الإسلاميات في المنتصف الأول من القرن الماضي. وهو الذي نَفّر المسلم الأوروبي المستجد ليبولد فايس (أو محمد أسد) منه. وسعى أبو الحسن الندوي بدأب إلى نزعه من العالم العربي، وإحلال الرؤية الأصولية الشاملة للإسلام والتاريخ والاجتماع والاقتصاد والحضارة والثقافة والأدب والغرب والعالم مكانه.
وكان مبتدأ سعيه الطويل رسائله التي أنشأها ما بين عامي 1940 و1950، وجلسته مع الأدباء والمثقفين والصحافيين في الحجاز الذين جمعهم به أحمد عبدالغفور عطار في ذلك العام.
ومما يؤكد أن تقويمه لمستوى رواد الأدب السعودي، قد قاله بغرضية عقدية، أنه لم يعرِّض علم الذين قابلهم في الحجاز، وثقافة كتاب الإخوان المسلمين الذين اجتمع بهم في مصر للتقويم، بل كان يثني على علم الأولين، ويشيد بثقافة الآخرين.
لقد وصف «شباب الحجاز وأدباءها وأصحاب الأقلام والصحافيين فيها» في رحلته إلى الحجاز عام 1974 بأنهم ينظرون إلى كل حركة دينية دعوية خالصة نظر الاستخفاف والازدراء ولقد قرر في رحلته إلى الحجاز عام 1950، «أن الحضارة الغربية أثرت في شباب جزيرة العرب والحجاز المقدس، وشلت قواهم، وحطمت أعصابهم»، ومع هذا الوصف وهذا التقرير نحن نعلم منه أن بعضهم في أول جلسة لهم معه أعجبوا وبهروا به وفتحوا الطريق أمامه إلى الإذاعة والصحافة. وأن خطبه تلقيت باستحسان وقبول، وأستمع إليها في رغبة وشوق، وشاع ذكرها في الشباب والأدباء. وأنه قامت بينه وبين الأدباء وأصحاب الأقلام من الشباب روابط وصلات، فكان يدعوهم هو وجماعته إلى مقرهم تارة، ويدعونهم هم إلى بيوتهم تارة أخرى!
ونعلم منه أنه في جلسته الأولى معهم رأى في بعضهم نزعة إسلامية، وأنه بحث عن مصدرها، فوجد أنها من نتائج حركة الإخوان المسلمين.
وما أعلمنا به يثبت لنا أنه كان يلجأ إلى المبالغة والتهويل في تصوير واقع المثقفين في الحجاز من جهة، ويثبت لنا ما سبق لي أن قلته، وهو أن تأثرهم بحركة الأدب والثقافة والفكر في مصر، كان محدوداً وضيقاً وبسيطاً من جهة أخرى.
إنهم لو كانوا خلاف ذلك لما سهل عليه أن يخترقهم، ويؤثر فيهم بسهولة، مع أن غلوه الديني كان ظاهراً. وهم كما قال عنهم في رحلته الأولى إلى الحجاز كان لا شأن لهم بأصحاب العمائم والفضيلة، يتهيبونهم ويبتعدون عنهم، وكانوا ينظرون إلى كل حركة دينية دعوية خالصة نظر الاستخفاف والازدراء.
ربما يعود إعجابهم وانبهارهم به إلى جدة الإسلام الذي يدعو إليه، ومهارته في استدعاء أحداث ووقائع في تاريخ الإسلام القديم ومفاهيم إسلامية عقدية وتطبيقها على متغيرات الزمن الحاضر، واطلاعه الوافر على الثقافة المعاصرة.
السعودية وبلدان الجزيرة العربية كانت تصنف ضمن البلدان المنعزلة عن العالم، أو بعبارة أخرى منعزلة عن تأثير الحضارة الغربية. وفي مقال طويل لأبي الحسن الندوي اسمه (موقف العالم الإسلامي تجاه الحضارة الغربية) نشره في مجلة (البعث الإسلامي) الهندية عام 1962، استخدم هذا التصنيف إزاء السعودية واليمن ومعهما أفغانستان. وكان يريد للسعودية وبلدان الجزيرة العربية أن تبقى بمنأى عن المؤثر الحديث الآتي من الحضارة الغربية. ومن الناحية العملية المؤثر الحديث أو العصري كان يفد إلى هذه البلدان من مصر، وليس من الغرب مباشرة.
لهذا كان متضايقاً مما وجده في زيارته إلى الحجاز من إقبال على مطبوعات وعلى مؤلفات مصرية عصرية.
تلا ذلك المؤثر ما عده هو خطباً جللاً، أقض مضجعه. فلقد سمع، وكان يزور المملكة حيناً بعد حين حاجاً ومعتمراً، وعضواً في مجالس علمية واستشارية، «أن هناك تفكيراً في اتخاذ الوسائل الحديثة والمظاهر العصرية لترقية البلاد ترقية حضارية، وترفيه أهلها والتوسع والانطلاق في مواد التسلية، وتقليد الأقطار الغربية في مظاهر الحياة والمدنية، ليكون ذلك علاجاً للتذمر الناشئ في ذلك العصر وفي كل مكان، وشاغلاً للشعب السعودي عن التفكير الخاطئ، والتسلي ببرامج الحكومات العربية التي عرفت بالدعاية ضد المملكة العربية السعودية ومحاربتها، ولم يعرف الكاتب مدى صحة هذه الأخبار ومدى الجدية في هذا التفكير، ولكن أفزعه ذلك، فرأى لزوم الحديث في هذا الموضوع مع كبار المسؤولين وولاة الأمور في المملكة. وكان من حسن الحظ أن صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن عبدالعزيز ولي العهد المعظم ورئيس الوزراء يومئذٍ، زار المدينة المنورة في هذه الأيام، فطلب الكاتب مقابلة له، وطلب منه أن يسمح له بالحديث الخاص في جلسة خاصة لا يحضرها غيره وغير مرافقه، فقابله صاحب السمو وأصغى إلى حديثه في صمت وصبر من غير أن يقاطعه أو يبدي رأيه قبل أن يتم حديثه.. وكان الكاتب قد أعد رسالة ليقرأها الأمير على هدوء وطمأنينة، وتبقى عنده كمذكرة، فقدمها إليه وتصفحها الأمير فيصل بمحضر الكاتب ثم تكلم في ضوئها، فأوضح بعض النقاط وأزاح بعض الشبهات...».
ولما رأى الحكومة ماضية في تنفيذ ما يعده هو خطباً جللاً، كتب إلى الأمير فيصل بن عبدالعزيز رسالة، وكان لايزال ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء، جاء فيها: «قد يعتقد بعض الناس أن في هذا التوسع والانطلاق في مواد التسلية وتقليد الأقطار المتمدنة التي سارت وراء الغرب في أساليب التعليم وبرامج الإذاعة وتطبيق مظاهر الحياة الغربية مما لا تقدم ولا تؤخر في نهضة البلاد وقوتها، ترفيهاً للشعب وتحقيقاً لمطالبه، وعلاجاً للتذمر، وشاغلاً له عن التفكير الخاطئ وتقدماً بالبلاد ومع الأسف والاعتذار لا أوافق على ذلك في ضوء التجربة والتاريخ، فليس هذا هو العلاج».
سيُفاجأ القارئ أن هذا الخطب الذي لا يبين عن حقيقته في مقدمة الرسالة ولا في نصها، المنشور في كتابه (كيف ينظر المسلمون إلى الحجاز وجزيرة العرب؟)، هو الإعلان عن إدخال البث التلفزيوني إلى السعودية!
ولقد أعلن عن هذا الأمر الأمير فيصل بن عبدالعزيز، ولي العهد، ورئيس الوزراء، بمناسبة تشكيل حكومة جديدة برئاسته في عهد الملك سعود بن عبدالعزيز. وهذا الذي جعله يطلب اللقاء به على انفراد مع مرافقه الشخصي ابن أخته محمد الحسني. وكان هذا أول لقاء له به منفرداً، ولقد نسق له هذا اللقاء المنفرد الشيخ عبدالعزيز بن باز، نائب رئيس الجامعة الإسلامية وقتذاك.
وفي عام 1963م أقر مجلس الوزراء إنشاء محطتين تلفزيونيتين في جدة والرياض مؤقتتين، وهذا الذي دفعه لأن يعيد الحديث مرة أخرى في الرسالة التي بعثها إلى الملك فيصل بن عبدالعزيز، حينما كان ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء والتي أتينا بفقرة منها.
العجيب أنه في سيرته الذاتية التي كتبها في سنوات الثمانينات الميلادية، وفي الفقرة التي أفردها للحديث عن لقاءاته مع الملك فيصل بن عبدالعزيز، كان أيضاً لا يبين عن حقيقة الخطب الذي أقض مضجعه، وإنما يكتفي بالكلام العام الذي أوردنا سابقاً.
كذلك هو في هذه السيرة، كان لايزال مقتنعاً بالتفسير الذي أبلغه إياه المعترضون على إدخال البث التلفزيوني إلى السعودية، وهو التفسير الذي تقدم في ما اقتبسناه منه. إذ أعاد قوله بعبارات مختلفة «رفع عبدالناصر في أثناء حكمه لواء القومية العربية، وبذل جميع محاولاته لسيادته الكاملة على الشرق الغربي، وكانت أكبر أهدافه في هذا الصدد الحكومة السعودية التي كان قد ظهر فيها البترول كأعظم مصدر ورصيد للشراء، فبدأ باستمرار يتحدى هذه الدولة ويشهر بمواطن الضعف في حكامها وقادتها، وإحداث البلبلة والفوضى في هذه الدولة، الأمر الذي أدى إلى زحزحة الثقة في المملكة، ومركب النقص فيها، وقد كانت الصحافة والإذاعة المصرية أقوى صحافة وإذاعة في العالم العربي. ورأى بعض العقلاء علاجاً لهذه المشكلة أن تظهر هذه البلاد أيضاً في مظاهر الرقي والمدنية الجديدة، وتهيأ فيها جميع وسائل التسلية والترفيه، حتى لا يشعر فيها أي تقدمي حر بالخناق، ولا يضطر للخروج إلى مصر والتسلي ببرامجها الإذاعية والتلفزيونية».
يشير استمرار قناعته بالقول بهذا التفسير، رغم خطئه، إلى التأكيد بطريقة غير مباشرة على أن موقفه الرجعي القديم الذي اتخذه في معارضة إنشاء محطات تلفزيونية في السعودية في أول الستينات وفي منتصفها كان سليماً وصائباً.
فهذا التفسير يؤمِّن له الغض من سبب نشأة التلفزيون في السعودية. وهو أن سبب النشأة كان استجابة للتحدي الناصري الشرس الذي فُرض على السعودية.
* كاتب سعودي