-A +A
محمد الأهدل (جدة)
بين صرامة الضابط ورقة الفنان، أفنى «هرم الحجاز» -كما يسميه محبوه- زهرة سنوات عمره في خدمة الوطن، متنقلا بين سلم الترقيات الأمنية التي بلغ فيها رتبة «عقيد» قبل أن يتقاعد، والسلم الموسيقي بكل مقاماته وطبقاته، مداعبا بأنامله المرهفة أوتار عوده، عازفا ألحانا خالدة تغنى بها كوكبة من نجوم الفن العربي، دون أن يخدش وقار رجل الأمن وانضباطه.
جميل محمود، المطوف والعسكري والفنان، حين كان يرتدي بزته العسكرية، يمارس عمله بفن ويوظف كل حكمته وهدوئه في تسيير الأمور دون تعقيد، أضفى لشخصية الضابط كثيرا من الصرامة الرقيقة، على طريقة السهل الممتنع، تولى العديد من المناصب القيادية الأمنية في عدد من مدن المملكة، مستفيدا من دراسته العسكرية في أعرق الكليات العالمية، وفضل أن يتقاعد مبكرا وهو لم يبلغ الأربعين من العمر للتفرغ لفنه.

محمود حالة مميزة في الغناء السعودي، فليس أعذب من لحن متدفق من ريشة ضابط عسكري يجيد دوزنة الأمور على مقام الحياة، وعلى أن العسكرية والفن في رأيه خطان متوازيان لا يلتقيان أبدا، إلا أنه جمعهما في ذات واحدة فأبدع هنا وأمتع هناك.
شخصية محمود الثرية بالتجارب المتنوعة في حقول عدة، شكلت «أنموذجا» قلما نجد مثيلا له، فهو إضافة إلى أنه ضابط وفنان، ورث مهنة الطوافة أبا عن جد، وعن ذلك يروي لـ«عكاظ» بعضا مما تختزنه ذاكرته عن تلك الأيام في طفولته، إذ تعلم بعض اللغات خصوصا الأوردو من خلال اندماجه بالحجيج، وتشرب أصول الطوافة التي كانت تعتمد سابقا على تولي الرجال تطويف أقرانهم الكبار، بينما الصغار يطوفون بالنساء، غرست تلك المهنة في نفس «جميل» الإحساس العالي بالآخرين، والتفاني في خدمتهم، واستفاد من تلك الصفات في عمله العسكري، وحين تفرغ للفن لاحقا.
وحين نأتي على سيرة «هرم الحجاز» الفنية نتوقف كثيرا في محطات عدة، منها «سمراء» التي لحنها بعد أن صاغها الشاعر يحيى توفيق، وشدت بها هيام يونس:
سمراء رقي للعليل الباكي *** وترفقي بفتى مناه رضاك
ما نام وجدا تجاسرت عيناه *** بين المروج فغازلت عيناك
وهناك «كعبة الإلهام» التي تغنى بها وديع الصافي من كلمات مسلم البرازي، إضافة إلى «يا أمل عطشان» التي كتبها ياسين سمكري وغنتها رجاء بلمليح رحمها الله.
«حلو كتييير» لزمة رددها كثيرا أبو سهيل، خلال تقديمه برنامجه «وتر وسمر» في ثمانينات القرن الماضي، بعد فراغ العمالقة الذين استضافهم من وصلاتهم الغنائية، شكلت هاتان الكلمتان العفويتان جزءا من شخصيته، الممزوجة بخفة الظل وحرصه على تقدير العمل الفني، وتحفيز المبدعين الذين اجتمعوا مع جميل، في أيام الفن الجميل.