-A +A
علي الشدوي *
ترجمت أخيراً سيرة الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت مل (ترجمها الحارث النبهان وصدرت عن دار التنوير 2015). وهي مهمة لمن أراد أن يتتبع التطور الفكري لهذا الفيلسوف الذي كرس معظم حياته من أجل تحسين الحياة البشرية، وأن يكون مصلحا في هذا العالم لا سيما في جوانبه القانونية والسياسية، وبالخصوص حين كرس جزءا من حياته في الدفاع عن حق الطبقة العاملة في الاقتراع العام، وحق النساء في التصويت والترشح مثلها مثل الرجل.
ما يلفت النظر في هذه السيرة أن جون ستيوارت مل أصيب باكتئاب حاد كاد يقضي على مستقبله الفكري والسياسي، ولم ينج منه إلا بقراءة كتب الأدب والفن بشكل عام وقراءة الشعر والاستماع إلى الموسيقى بشكل خاص. لماذا حدث هذا؟ يمكن القول إن السبب يرجع إلى تكوينه الفكري والفلسفي. وهذه الإجابة تحتاج إلى أن نعرض لمراحل تكوينه الفكري والثقافي، وبشكل عام يمكن القول إن جون ستيوارت مل لم يعش طفولته كما يعيشها الأطفال؛ ذلك أن والده ذو نظريات تربوية (والده أيضا مفكر وفيلسوف)، وقد أخضع ابنه إلى تجريب النظريات التربوية التي يؤمن بها. بدأ بتعليمه اليونانية في سن الثالثة. نعم في الثالثة من عمره حين طلب منه أن يحفظ قوائم من ألفاظ اللغة اليونانية، وقبل أن يصل إلى الثامنة من عمره كان أبوه قد طلب منه أن يقرأ كبار كتاب النثر اليونانيين بما فيها محاورات أفلاطون. ويقر في سيرته أنه لم يفهم شيئا من قراءته تلك، لكن أباه لم يكن يطالبه بما يستطيع إنما أيضا بما لا يستطيع.
بدأ في سن الثامنة بقراءة الشعراء اليونانيين، وما بين الثامنة والثانية عشرة من عمره كان قد قرأ تقريبا أغلب شعراء اليونان (بقي من قراءاته تلك ترجمة للإلياذة يظن أنه قرأها طوال حياته من عشرين إلى ثلاثين مرة) ثم جعله أبوه يعنى عناية خاصة بكتاب البلاغة لأرسطو إلى حد أنه طلب أن يدون محتوى الكتاب في جداول تلخيصية إجمالية. ثم انتقل به إلى تعلم مبادئ الهندسة والحساب، وكذلك حساب التفاضل والتكامل وأجزاء أخرى من الرياضيات العليا.
بدأ في سن الثالثة عشرة مرحلة أخرى من دراسته الفكرية. بدأ بدراسة المنطق. وقد دفعه أبوه إلى أن يقرأ رسائل لاتينية كاملة في المنطق. وأكثر من هذا كان يطلب منه أن يقدم له ملخصا عما قرأ. كان أبوه يوضح له ما غمض، لكنه توضيح لم يكن ليجدي طفلا في الثالثة عشرة من عمره. لكن أباه واصل فكان يطلب منه أن يقرأ عليه نصا ويجيب عن أسئلة أبيه في ما قرأ، وبعد هذا التأهيل الفكري المضني صار عند الابن ما يستطيع حقا أن يدعوه هدف الحياة، وهو أن يكون مصلحا للحياة البشرية. وقد اطمأن إلى هذا الهدف، وغبط نفسه على الحياة السعيدة التي كان مستمتعا بها من خلال تعليق سعادته على شيء متين كتكريس نفسه لإصلاح العالم.
وفي إحدى الحالات الذهنية المفاجئة سأل نفسه: ماذا لو تحقق لي هذا الهدف؟ ماذا لو تحقق هدفي في الحياة؟ ماذا لو تغيرت المؤسسات إلى ما تحب أن تكون؟ أتكون هذه فرحتك وسعادتك الكبرى؟ تداعت كل الأسس التي أقام عليها حياته، وتكاثرت الأسئلة: أيعقل أن تكون سعادته كلها كامنة في السعي المتواصل نحو هذه الغاية؟ ولم يعد لهذه الغاية أي سحر عنده، وشعر أنه فقد كل ما يدعوه إلى مواصلة الحياة. رجا أن تزول هذه الحالة من تلقاء نفسها، لكنها لم تزل. وقد تمثل هذه الحالة في أبيات من قصيدة (كآبة) لـ(كوليريدج) ليصف بها حالته آنذاك.
حزن من غير ألم، حزن خاو موحش مظلم، حزن مختنق نعس خامد، لا يأنس متنفسا أو راحة، في كلمة أو زفرة أو دمعة. لم يجد حلا لحالته عند أبيه. كتب يقول: «لقد جرى تثقيفي الذي كان أبي قائما عليه كله من غير أي حساب لاحتمال وصولي إلى هذه النتيجة. لم أر ضرورة تدعوني إلى إيلام أبي بجعله يرى أن خططه قد خابت بعد أن صار الأمر كله على حال لا تنفع فيها معالجة، بل تجاوز قدرته على إصلاح ما فسد».
لنقرأ الأدب. ولنستمتع بالفن. ولنستمع إلى الموسيقى. هذه خلاصة ما تبقى من حكاية هذا الفيلسوف. لقد بدأ يعلق أهمية كبرى على الشعر والفن. وأفادته متعته بالموسيقى. وتحسنت حالته تحت تأثير هذين الفنين (الشعر والموسيقى). كتب عن القصائد التي قرأها «برهنت لي المسرة التي منحتني إياها القصائد على أن ثقافة من هذا النوع تجعل الإنسان حصينا من أي خوف بنجاح أكبر مما يحققه أكثر ضروب التفكير التحليلي تأصلا في عقله».

* ناقد سعودي