المحير أن التعليم في السعودية بكامله نشأ نشأة دينية محافظة، واستمر الطابع الديني فيه إلى يومنا هذا، وأنه لا توجد ثنائية فيه بين التعليم الديني والتعليم المدني، وأنه كان في تاريخه يمضغ ما أعده ويعده طهاة الإسلامية الأصولية لقمة لقمة، حتى امتلأ واتخم مع الثمانينات الميلادية، وأن كثرة من المسؤولين التنفيذيين فيه إما محافظون تقليديون وإما من المتعاطفين مع الإسلام الحركي وإما من شيعته. والأكثر من هذا أنه في عقود متأخرة تحقق بالكامل ما دعا إليه أبو الحسن الندوي في سلسلة مقالاته المنشورة في جريدة (البلاد) عام 1950، ومع هذا كله لم يبد في رسائله وفي محاضراته رضاه الديني المتشدد والمتزمت -على الأقل- عن هذا القطاع، بل كان يشكك ويلمز فيه من الناحية الفكرية والسياسية والأمنية.
إنه مع إعجابه وإجلاله وثنائه على الملك فيصل بن عبدالعزيز، ومع إعلانه «تأثره بذكائه الفائق وحسن وفادته وطيب أخلاقه وصبره على الاستماع وبساطته تأثرا كبيرا، وتأكيده أن هذا التأثر قد بقي فيه، لا يخفي تململه وضيقه ويأسه مما يسميه «التطور المرتجل بضغط العوامل السياسية والاقتصادية والحضارية» الذي حصل في عهده، أو على وجه الدقة لايخفي تململه وضيقه ويأسه من مشروع كان هو وراء إطلاقه قبل توليه الملك، وتابع تنفيذه بعد أن تولى الملك.
يبرز هذه التململ والضيق واليأس في تتمة لكلامه السابق، ختم فيها حديثه عن الملك فيصل، إذ قال: ... لكن ظهر لي أنه مهما كانت الأسباب والحالات الاضطرارية، فإن المملكة لم تزل متجهة ذلك الاتجاه المرسوم الذي تقدمت إليه عام 1963 - 1964.
ويشير بهذا التاريخ إلى بدء المرحلة التنفيذية في إنشاء محطتين تلفزيونيتين في السعودية. وهي مرحلة قبلها وفي أثنائها وبعدها أفشل في إقناع الملك فيصل بالعدول عن الشروع بها، رغم كل كلامه المنمق عن «شخصية البلاد المقدسة الفريدة ووجوب الاحتفاظ بها»، وعن «تجربة التاريخ والأمم في إخفاق سياسة إطلاق العنان في الحرية والتمتع والتسلي».
إن من المؤكد أن أبا الحسن الندوي - الذي كان ذلك التاريخ الذي حدده، بداية التطور المرتجل عنده!- لا يقر الجماعة الدينية المتطرفة التي حاولت الاعتداء على محطة تلفزيون الرياض، لتعطيلها عام 1965 (راجع الإشارة إلى شيء من ملابسات هذه الحادثة في كتاب عبدالرحمن الشبيلي: الإعلام في المملكة العربية السعودية المشار إليه آنفا)، على فعلها. لأن الرجل سلمي، ويعتمد على الحجة والإقناع والمجادلة بالحسنى لأولي الأمر والمسؤولين، ويسلك الطرق المشروعة في التعبير عن اعتراضه على الحكومة في إقرار شيء من التطور الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والمادي، وفي فسح المجال لدخول شيء من المؤثرات العصرية والتي منها، الكتب الثقافية والأدبية والمجلات السياسية والاجتماعية والثقافية والفنية، لكن من الصعب عزل اعتراضه الدؤوب والعميق على التلفزيون عن تلك الحادثة، ومن الصعب عزل تحفظاته وملحوظاته على إسلامية الحكومة السعودية عن حادثة احتلال الحرم عام 1979، فمسوغات تلك الحركة التي قامت بعملية الاحتلال -إذا ما نحينا الاتكاء على المهدوية- للخروج على السلطة الشرعية، هي مما تشتمل عليه تحفظاته وملحوظاته.
ولعل القارئ سيندهش عندما أقول أن عددا كبيرا من المبررات من المقولات التي استندت إليها حركة الصحوة الإسلامية في نقض إسلامية الحكومة السعودية والتي جهرت بها علنا في منشوراتها في المنتصف الأول من التسعينات الميلادية، هي من صميم ملحوظاته وتحفظاته. ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار هنا أن الجيل القديم من أبناء الصحوة الإسلامية في السعودية، قد تربى على كتبه وعلى كتيباته وعلى محاضراته، شأنهم في هذا شأن أبناء الصحوة الإسلامية في البلاد العربية الأخرى منذ منتصف القرن الماضي.
يختلف أبو الحسن الندوي عن السلك الديني ومشايخه البارزين الذين كان لهم الثقل والوزن الراجح في السعودية، والذي هو يشاركهم موقفهم الديني السلفي المتشدد من التلفزيون ومن وسائل التثقيف والترفيه الأخرى، أنه في مكاتبته للملك فيصل ومكاتباته للملك فهد، لا يتحدث بوصفه شيخا وعالم دين، يكتفي بالعظة والنصح والإنكار الديني، وإنما يتحدث باسم تاريخ الأمم والمدنيات والتاريخ الإسلامي وتجاربه، وباسم الحرص والخوف السياسي والعسكري والثقافي والعقائدي على أمن السعودية، داخليا وخارجيا، من المشكلات والقلاقل والفتن والثورات والفوضى.
أي أنه لا يتكئ ويتوكأ على صفته المشائخية الدينية، بل يتكئ ويتوكأ على كونه صاحب خطاب ثقافي وفكري، ذا حاسة سياسية وبصيرة تاريخية، وغيرة إسلامية، محبا وناصحا أمينا لولي الأمر في السعودية.
فهو على سبيل المثال في مكاتباته لا ينص على أن الرقي المادي، والثراء المالي، والأغاني، والمسرح، والدراما، والتصوير الفوتوغرافي، والتلفزيون، حرام، بل يذهب إلى علل ومسوغات أخرى لمنعها ورفضها في السعودية.
التلفزيون الذي استبسل في محاولة منعه في الستينات والسبعينات، وكان لا يسميه باسمه الصريح، ولا صرح في واحد من كتبه أو خصص رسالة في تحريم الغناء أو التصوير الفوتوغرافي ... إلخ، لأنه يدرك أن هذا الصنيع يخدش مقامه الثقافي ويخل بمكانته الفكرية، ويضعف- بالتالي - من تأثيره الدعوي والعقائدي، ويعرضه للتندر في أوساط المتعلمين والمثقفين والمتمدنين في العالم العربي.
أبو الحسن الندوي كان في زيارته للمشرق العربي -ومن ضمنها الحجاز- ما بين عامي 1950 و1951، كان غرضه أن يدعو العرب إلى الإسلام مجددا، ووجد في زيارته للحجاز عام 1947، في السعودية مكانا ملائما لإقامة دولة إسلامية أصولية، كما يهفو إليها الإسلام الحركي الجديد المنبعث من الهند، لأسباب أهمها:
أنها تضم أرض الحرمين الشريفين: مكة والمدينة. وأن الدولة السعودية في أصلها قامت على دعوة دينية وفي تأسيسها الحديث تستند إلى هذه الدعوة وترتكز عليها. وحداثة سن الدولة ويفاعة عمرها. وعزلة مجتمعات الجزيرة العربية وبعدها عن تأثير الحضارة الغربية في جانبها المادي والتنظيمي والعقلي والثقافي والقيمي مقاطعة السعودية الكاملة لدول المنظومة الشيوعية.
وقد قدم أبو الحسن الندوي للسعودية، حكومة وشعبا، وللحركات الإسلامية في العالم العربي ملامح تلك الدولة الإسلامية الأصولية منذ فترة مبكرة، التي أقام أساسها في ميدان رحب، عظيم التأثير، وهو ميدان التربية والتعليم. وهذه الدولة التي أقام أساسها في هذا الميدان الرحب والمؤثر دولة تحكمها عقائدية شمولية حصرية (توليتارية)، على نمط دول الكتلة الشيوعية، رغم أنه كان يكن العداء كل العداء للشيوعية وللأنظمة السياسية العربية الثورية المتحالفة مع الاتحاد السوفيتي والتي حاولت أن تحاكي ذلك النمط.
وكان يحث الملك فيصل في مكاتباته له أن يتبنى ذلك المثال لدولة إسلامية شمولية حصرية ذات نفوذ وهيمنة بوليسية على المجتمع، وغني عن البيان أن شخصيات من الإخوان المسلمين من سورية ومن مصر ومن العراق كانت تشاركه هذا الاستحثاث.
هذا التصور لمعنى الدولة المعنية -بالدرجة الأولى- بمراقبة مجتمعها والتحكم فيه، لإبقائه مغلقا ومنغلقا، كان متبنى في حركة الصحوة الإسلامية، وبدأت تضغط على الحكومة لتنفيذ تلك المهنة مع اتساع قاعدة جمهورها وتسعود قياداتها الثقافية والفكرية واكتمال تصورتها في منتصف الثمانينات الميلادية.
نعود إلى ما كنا فيه في الحلقات الثلاث الأولى من الحديث عن مسعود الندوي، صديق أبي الحسن الندوي وزميله في تعلم اللغة العربية ورفيقه في الجماعة الإسلامية أو كما تسمى في الهند بجماعة المودودي، وكان المودودي واتباعه يستاؤون من هذه التسمية. في تلك الحلقات الثلاث عرفنا أن مسعود الندوي وتلميذه محمد عاصم الحداد زارا البصرة والزبير وبغداد والموصل وكركوك والرياض ومكة والمدينة عام 1949هـ للتبشير بدعوة الإسلام الحركي الجديد ونشرها في العالم العربي. وعرفنا أنهما قد اتفقا وهما يتأهبان لمغادرة الرياض إلى الحجاز، على أنه لا مستقبل للإسلام الحركي الجديد القادم من الهند، في هذا المكان.
في العراق كان استشراف مسعود الندوي لمستقبله في هذا البلد مختلفا، فهو قد كان متفائلا في أن يشهد إقبالا على قراءة كتبه، رغم جدتها وكونها غير مألوفة عند طبقة العلماء والمتدينين العاديين وطبقة المتعلمين من غير المنتمين لأفكار لأنه وجد فيه شبابا ينتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين ووجد فيه مكتبة إخوانية بحي الأعظمية في بغداد ولأنه لمس إقبالا على قراءة كتب المودودي التي حملها معه هو وتلميذه محمد عاصم الحداد والتي قاما ترجمتها إلى العربية، وإعجابا كبيرا بها، خاصة من شباب الإخوان المسلمين.
فعبدالهادي الباحسين بعد أن قرأ كتابي المودودي: نظرية الإسلام السياسية والحكومة الإسلامية، امتدحها وأثنى عليها كثيرا، ورغب إلى مسعود الندوي أن يزوده بعشرين أو ثلاثين نسخة، ليوزعها هو ورفاقه الإخوانيين على أوسع نطاق، وبرر له هذا الطلب «بأن دور الشباب المثقف الذي يأتي إليها بسطاء جدا، مثل الصفحة البيضاء، الدين في البالد العربية مظلوم، لو قدمنا لهم الغذاء الفكري من باكستان، فسيكون لهذا عظيم الأثر على المدى البعيد».
ومن الأشياء التي أعجبته في الكتابين نقد أبي الأعلى المودودي لفكرة القومية الهندية، وحين التقى مسعود الندوي في يوم ثانٍ، قال له كلاما أثلج صدره، فلقد ذكر له «أن القومية العربية أكثر سوءاً من القومية الهندية، ففي الهند على الأقل -قد توجد جاذبية الوطن والتعلق به، أما هنا، فما كسبه العرب، وما حصلوا عليه كان عن طريق الإسلام، وبسبب الإسلام، ومع هذا فهؤلاء الناس مخدوعين بالقومية العربية، فأي أسف أكثر من هذا، ثم قال بإصرار شديد: لا بد أن نكتب في ذم القومية العربية، ولا بد أن نعلن رفضنا لها».
الإخواني عبدالهادي الباحسين في كلامه الأول أدرك أن كتب الإخوان المسلمين -بعد أن قرأ كتابي المودودي- محدودة وضعيفة ومتواضعة، ولا تفي بالغرض. وفي كلامه الثاني هو منزعج وغاضب من أن الإخوان المسلمين لا يوجد عندهم كتاب أو كتب تصارع أو تنقد أو حسب تعبيره -تذم القومية العربية.
كان مسعود الندوي يعتقد أن العراق أرض خصبة لنمو الإسلام الحركي، وأن مشكلة جماعة الإخوان المسلمين فيه هي في رأس الجماعة. ورأس الجماعة كان محمد الصواف المتخرج في الأزهر، والمشهود له بالخطابة وأحد الأسماء الفاعلة في الإسلام الحركي في السعودية في ستينات وسبعينات القرن الماضي.
مشكلة محمد محمود الصواف -كما يراها مسعود- أنه يتصدى لتدريس مسائل هو جاهل فيها فهو «لا يدري شيئا عن الأفكار الجديدة ولا عن الحالات الحاضرة، ولا يعرف من اللغات غير العربية، ولا يمكنه أن يواجه الاتجاهات الفكرية الحديثة على أساس العواطف».
وفي إحدى زياراته له في بيته، يقول مسعود: «تحدثت معه بالتفصيل عن أسلوب، والقصور الذي يبدو في منهج وأسلوب عمل الإخوان، كنت أريد أن أفند له بعض الأمور ولكنه قاطعني قائلا: أهدافنا وأهدافكم واحدة تماما، لقد قرأت ثلاثة كتب من مطبوعاتكم: النظرية السياسية، والحكومة الإسلامية، والدين الحق، فشعرت أن ما جاء فيها يتطابق تماما مع منهجنا ودعوتنا».
* باحث وكاتب سعودي
إنه مع إعجابه وإجلاله وثنائه على الملك فيصل بن عبدالعزيز، ومع إعلانه «تأثره بذكائه الفائق وحسن وفادته وطيب أخلاقه وصبره على الاستماع وبساطته تأثرا كبيرا، وتأكيده أن هذا التأثر قد بقي فيه، لا يخفي تململه وضيقه ويأسه مما يسميه «التطور المرتجل بضغط العوامل السياسية والاقتصادية والحضارية» الذي حصل في عهده، أو على وجه الدقة لايخفي تململه وضيقه ويأسه من مشروع كان هو وراء إطلاقه قبل توليه الملك، وتابع تنفيذه بعد أن تولى الملك.
يبرز هذه التململ والضيق واليأس في تتمة لكلامه السابق، ختم فيها حديثه عن الملك فيصل، إذ قال: ... لكن ظهر لي أنه مهما كانت الأسباب والحالات الاضطرارية، فإن المملكة لم تزل متجهة ذلك الاتجاه المرسوم الذي تقدمت إليه عام 1963 - 1964.
ويشير بهذا التاريخ إلى بدء المرحلة التنفيذية في إنشاء محطتين تلفزيونيتين في السعودية. وهي مرحلة قبلها وفي أثنائها وبعدها أفشل في إقناع الملك فيصل بالعدول عن الشروع بها، رغم كل كلامه المنمق عن «شخصية البلاد المقدسة الفريدة ووجوب الاحتفاظ بها»، وعن «تجربة التاريخ والأمم في إخفاق سياسة إطلاق العنان في الحرية والتمتع والتسلي».
إن من المؤكد أن أبا الحسن الندوي - الذي كان ذلك التاريخ الذي حدده، بداية التطور المرتجل عنده!- لا يقر الجماعة الدينية المتطرفة التي حاولت الاعتداء على محطة تلفزيون الرياض، لتعطيلها عام 1965 (راجع الإشارة إلى شيء من ملابسات هذه الحادثة في كتاب عبدالرحمن الشبيلي: الإعلام في المملكة العربية السعودية المشار إليه آنفا)، على فعلها. لأن الرجل سلمي، ويعتمد على الحجة والإقناع والمجادلة بالحسنى لأولي الأمر والمسؤولين، ويسلك الطرق المشروعة في التعبير عن اعتراضه على الحكومة في إقرار شيء من التطور الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والمادي، وفي فسح المجال لدخول شيء من المؤثرات العصرية والتي منها، الكتب الثقافية والأدبية والمجلات السياسية والاجتماعية والثقافية والفنية، لكن من الصعب عزل اعتراضه الدؤوب والعميق على التلفزيون عن تلك الحادثة، ومن الصعب عزل تحفظاته وملحوظاته على إسلامية الحكومة السعودية عن حادثة احتلال الحرم عام 1979، فمسوغات تلك الحركة التي قامت بعملية الاحتلال -إذا ما نحينا الاتكاء على المهدوية- للخروج على السلطة الشرعية، هي مما تشتمل عليه تحفظاته وملحوظاته.
ولعل القارئ سيندهش عندما أقول أن عددا كبيرا من المبررات من المقولات التي استندت إليها حركة الصحوة الإسلامية في نقض إسلامية الحكومة السعودية والتي جهرت بها علنا في منشوراتها في المنتصف الأول من التسعينات الميلادية، هي من صميم ملحوظاته وتحفظاته. ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار هنا أن الجيل القديم من أبناء الصحوة الإسلامية في السعودية، قد تربى على كتبه وعلى كتيباته وعلى محاضراته، شأنهم في هذا شأن أبناء الصحوة الإسلامية في البلاد العربية الأخرى منذ منتصف القرن الماضي.
يختلف أبو الحسن الندوي عن السلك الديني ومشايخه البارزين الذين كان لهم الثقل والوزن الراجح في السعودية، والذي هو يشاركهم موقفهم الديني السلفي المتشدد من التلفزيون ومن وسائل التثقيف والترفيه الأخرى، أنه في مكاتبته للملك فيصل ومكاتباته للملك فهد، لا يتحدث بوصفه شيخا وعالم دين، يكتفي بالعظة والنصح والإنكار الديني، وإنما يتحدث باسم تاريخ الأمم والمدنيات والتاريخ الإسلامي وتجاربه، وباسم الحرص والخوف السياسي والعسكري والثقافي والعقائدي على أمن السعودية، داخليا وخارجيا، من المشكلات والقلاقل والفتن والثورات والفوضى.
أي أنه لا يتكئ ويتوكأ على صفته المشائخية الدينية، بل يتكئ ويتوكأ على كونه صاحب خطاب ثقافي وفكري، ذا حاسة سياسية وبصيرة تاريخية، وغيرة إسلامية، محبا وناصحا أمينا لولي الأمر في السعودية.
فهو على سبيل المثال في مكاتباته لا ينص على أن الرقي المادي، والثراء المالي، والأغاني، والمسرح، والدراما، والتصوير الفوتوغرافي، والتلفزيون، حرام، بل يذهب إلى علل ومسوغات أخرى لمنعها ورفضها في السعودية.
التلفزيون الذي استبسل في محاولة منعه في الستينات والسبعينات، وكان لا يسميه باسمه الصريح، ولا صرح في واحد من كتبه أو خصص رسالة في تحريم الغناء أو التصوير الفوتوغرافي ... إلخ، لأنه يدرك أن هذا الصنيع يخدش مقامه الثقافي ويخل بمكانته الفكرية، ويضعف- بالتالي - من تأثيره الدعوي والعقائدي، ويعرضه للتندر في أوساط المتعلمين والمثقفين والمتمدنين في العالم العربي.
أبو الحسن الندوي كان في زيارته للمشرق العربي -ومن ضمنها الحجاز- ما بين عامي 1950 و1951، كان غرضه أن يدعو العرب إلى الإسلام مجددا، ووجد في زيارته للحجاز عام 1947، في السعودية مكانا ملائما لإقامة دولة إسلامية أصولية، كما يهفو إليها الإسلام الحركي الجديد المنبعث من الهند، لأسباب أهمها:
أنها تضم أرض الحرمين الشريفين: مكة والمدينة. وأن الدولة السعودية في أصلها قامت على دعوة دينية وفي تأسيسها الحديث تستند إلى هذه الدعوة وترتكز عليها. وحداثة سن الدولة ويفاعة عمرها. وعزلة مجتمعات الجزيرة العربية وبعدها عن تأثير الحضارة الغربية في جانبها المادي والتنظيمي والعقلي والثقافي والقيمي مقاطعة السعودية الكاملة لدول المنظومة الشيوعية.
وقد قدم أبو الحسن الندوي للسعودية، حكومة وشعبا، وللحركات الإسلامية في العالم العربي ملامح تلك الدولة الإسلامية الأصولية منذ فترة مبكرة، التي أقام أساسها في ميدان رحب، عظيم التأثير، وهو ميدان التربية والتعليم. وهذه الدولة التي أقام أساسها في هذا الميدان الرحب والمؤثر دولة تحكمها عقائدية شمولية حصرية (توليتارية)، على نمط دول الكتلة الشيوعية، رغم أنه كان يكن العداء كل العداء للشيوعية وللأنظمة السياسية العربية الثورية المتحالفة مع الاتحاد السوفيتي والتي حاولت أن تحاكي ذلك النمط.
وكان يحث الملك فيصل في مكاتباته له أن يتبنى ذلك المثال لدولة إسلامية شمولية حصرية ذات نفوذ وهيمنة بوليسية على المجتمع، وغني عن البيان أن شخصيات من الإخوان المسلمين من سورية ومن مصر ومن العراق كانت تشاركه هذا الاستحثاث.
هذا التصور لمعنى الدولة المعنية -بالدرجة الأولى- بمراقبة مجتمعها والتحكم فيه، لإبقائه مغلقا ومنغلقا، كان متبنى في حركة الصحوة الإسلامية، وبدأت تضغط على الحكومة لتنفيذ تلك المهنة مع اتساع قاعدة جمهورها وتسعود قياداتها الثقافية والفكرية واكتمال تصورتها في منتصف الثمانينات الميلادية.
نعود إلى ما كنا فيه في الحلقات الثلاث الأولى من الحديث عن مسعود الندوي، صديق أبي الحسن الندوي وزميله في تعلم اللغة العربية ورفيقه في الجماعة الإسلامية أو كما تسمى في الهند بجماعة المودودي، وكان المودودي واتباعه يستاؤون من هذه التسمية. في تلك الحلقات الثلاث عرفنا أن مسعود الندوي وتلميذه محمد عاصم الحداد زارا البصرة والزبير وبغداد والموصل وكركوك والرياض ومكة والمدينة عام 1949هـ للتبشير بدعوة الإسلام الحركي الجديد ونشرها في العالم العربي. وعرفنا أنهما قد اتفقا وهما يتأهبان لمغادرة الرياض إلى الحجاز، على أنه لا مستقبل للإسلام الحركي الجديد القادم من الهند، في هذا المكان.
في العراق كان استشراف مسعود الندوي لمستقبله في هذا البلد مختلفا، فهو قد كان متفائلا في أن يشهد إقبالا على قراءة كتبه، رغم جدتها وكونها غير مألوفة عند طبقة العلماء والمتدينين العاديين وطبقة المتعلمين من غير المنتمين لأفكار لأنه وجد فيه شبابا ينتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين ووجد فيه مكتبة إخوانية بحي الأعظمية في بغداد ولأنه لمس إقبالا على قراءة كتب المودودي التي حملها معه هو وتلميذه محمد عاصم الحداد والتي قاما ترجمتها إلى العربية، وإعجابا كبيرا بها، خاصة من شباب الإخوان المسلمين.
فعبدالهادي الباحسين بعد أن قرأ كتابي المودودي: نظرية الإسلام السياسية والحكومة الإسلامية، امتدحها وأثنى عليها كثيرا، ورغب إلى مسعود الندوي أن يزوده بعشرين أو ثلاثين نسخة، ليوزعها هو ورفاقه الإخوانيين على أوسع نطاق، وبرر له هذا الطلب «بأن دور الشباب المثقف الذي يأتي إليها بسطاء جدا، مثل الصفحة البيضاء، الدين في البالد العربية مظلوم، لو قدمنا لهم الغذاء الفكري من باكستان، فسيكون لهذا عظيم الأثر على المدى البعيد».
ومن الأشياء التي أعجبته في الكتابين نقد أبي الأعلى المودودي لفكرة القومية الهندية، وحين التقى مسعود الندوي في يوم ثانٍ، قال له كلاما أثلج صدره، فلقد ذكر له «أن القومية العربية أكثر سوءاً من القومية الهندية، ففي الهند على الأقل -قد توجد جاذبية الوطن والتعلق به، أما هنا، فما كسبه العرب، وما حصلوا عليه كان عن طريق الإسلام، وبسبب الإسلام، ومع هذا فهؤلاء الناس مخدوعين بالقومية العربية، فأي أسف أكثر من هذا، ثم قال بإصرار شديد: لا بد أن نكتب في ذم القومية العربية، ولا بد أن نعلن رفضنا لها».
الإخواني عبدالهادي الباحسين في كلامه الأول أدرك أن كتب الإخوان المسلمين -بعد أن قرأ كتابي المودودي- محدودة وضعيفة ومتواضعة، ولا تفي بالغرض. وفي كلامه الثاني هو منزعج وغاضب من أن الإخوان المسلمين لا يوجد عندهم كتاب أو كتب تصارع أو تنقد أو حسب تعبيره -تذم القومية العربية.
كان مسعود الندوي يعتقد أن العراق أرض خصبة لنمو الإسلام الحركي، وأن مشكلة جماعة الإخوان المسلمين فيه هي في رأس الجماعة. ورأس الجماعة كان محمد الصواف المتخرج في الأزهر، والمشهود له بالخطابة وأحد الأسماء الفاعلة في الإسلام الحركي في السعودية في ستينات وسبعينات القرن الماضي.
مشكلة محمد محمود الصواف -كما يراها مسعود- أنه يتصدى لتدريس مسائل هو جاهل فيها فهو «لا يدري شيئا عن الأفكار الجديدة ولا عن الحالات الحاضرة، ولا يعرف من اللغات غير العربية، ولا يمكنه أن يواجه الاتجاهات الفكرية الحديثة على أساس العواطف».
وفي إحدى زياراته له في بيته، يقول مسعود: «تحدثت معه بالتفصيل عن أسلوب، والقصور الذي يبدو في منهج وأسلوب عمل الإخوان، كنت أريد أن أفند له بعض الأمور ولكنه قاطعني قائلا: أهدافنا وأهدافكم واحدة تماما، لقد قرأت ثلاثة كتب من مطبوعاتكم: النظرية السياسية، والحكومة الإسلامية، والدين الحق، فشعرت أن ما جاء فيها يتطابق تماما مع منهجنا ودعوتنا».
* باحث وكاتب سعودي