-A +A
علي العميم *
لم يكن مسعود الندوي راضياً عن مستوى مؤلفات الإخوان المسلمين التي قرأها في العراق. الكتاب الذي قرأه في العراق وكان راضياً عن مستواه، هو كتاب. (العدالة الاجتماعية في الإسلام)، لمؤلفه سيد قطب، وكان المؤلف في ذلك الوقت ليس من الإخوان المسلمين، وكان الكتاب حديث الإصدار.
شهد للكتاب بأنه كتاب جيد، وشهد للمؤلف بأنه مسلم متمكن فكرياً وثقافياً «والأهم من ذلك تفرقته بين الإسلام والمسلمين، وأنه يرى العدل الاجتماعي، وقد تحقق في المستقبل على أسس الإسلام الصحيح، ولا يدري المسكين أن هناك في الهند وباكستان من انشغلوا وانهمكوا، وغرقوا في وضع الأفكار الرامية إلى التطبيق العملي لهذا الحكم، إن إطلاعه على هذا الأمر يدخل في صميم أعمالنا».
يرجع تقديره لتفرقة المؤلف بين الإسلام والمسلمين، لكون هذه الفكرة فكرة أساسية لدى الإسلام الحركي الهندي في النظر إلى تاريخ الإسلام والمسلمين منذ زمن النشأة إلى الزمن الحديث وفي التنظير إلى دولة إسلامية طوباوية.
وكان أول من قام بها -بحسب أول المتلقفين للفكرة وأهم المطورين لها أبي الأعلى المودودي- المجدد الديني الهندي شاه ولي الدين الدهلوي (1703 – 1762).
يقول أبو الأعلى المودودي عن هذا الأمر: في كتابه (موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه)، «نظر ولي الله في التاريخ الإسلامي بأكمله نظر المنتقد المحقق والإمام على ما ينتهي إليه علمي، وكان أول من تفطن للفرق الجوهري الدقيق بين تاريخ الإسلام وتاريخ المسلمين وتناول تاريخ المسلمين بالنقد والاختبار من وجهة نظر تاريخ الإسلام ليتبين ماذا كانت حالة لإسلام في الواقع بين الأمم الداخلة فيه خلال القرون الماضية المتعددة. وهذا الموضوع يبلغ من الدقة أن الناس ارتبكوا في مضلاته فيما مضى، ولا يزالون يرتكبون فيها اليوم، فلم يأت أحد من بعد هذا الإمام الحقيقي متبايناً عن تاريخ الإنسان وقد جاءت شتى المواضع من كتب الإمام الألمعي يحمل في ذهنه تصوراً واضحاً لتاريخ الإسلام إشارات بهذا الصدد ولكنه خص بانتقاده لتاريخ المسلمين على الاطراد في الفصل السادس من كتابه (إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء).
هذا الكلام قاله -أيضاً- مسعود الندوي، تلميذ المودودي، في كتابه: «تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند» مع تغيير في الألفاظ والعبارات.
قال شاه ولي الله الدهلوي بالفكرة من أجل غرض دفاعي، هو الدفاع عن إسلامية معتقد الخلافة السني وعن أحقية الخلفاء الراشدين بالإمامة العظمى أمام هجوم الشيعة على هذا المعتقد وعلى خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلى الخلافة السنية وهذا الهجوم له تاريخ متصل في الهند وكانت بداياته في عصر السلطان جلال أكبر. ومن أجل هذا الغرض مايز وفرَق بين تاريخ الإسلام وتاريخ المسلمين، وبين الخلافة والملكية، وعد الأخيرة مفسدة كبرى اعترضت وعطلت استمرار الخلافة الراشدة، وكتابه (إزالة الخفاء عن تاريخ الخلفاء) الذي أشار المودودي ومسعود الندوي أنه ركز فيه هذه الفكرة، والكتاب في أصله رد على الشيعة.
سيد قطب توصل إلى الفكرة أو انتهى إليها في سياق مختلف عن الذي قالها به شاه ولي الله الدهلوي، ومشابه للسياق الذي دعا أبو الأعلى المودودي أن يطور الفكرة ويتوسع فيها، وهذا السياق سياق عصري تضاءل فيه الإيمان بالدولة المستندة كلياً إلى الدين، وقوي الإيمان بوجوب علمانية الدولة، إما على أساس قومي ليبرالي، وإما على أساس ماركسي، وإما ما بينهما.
وفي سبيل دعم الفكرة التي توصل أو انتهى إليها سيد قطب في كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام)، اتكأ على مصادر تاريخية شيعية.
وكان الكتاب معنياً بتقديم بديل إسلامي كامل ومتكامل، ينافس ما تغري به الشيوعية من حلول سهلة وعادلة لمشكلة الفقر والعوز والفاقة والتفاوت والتباين بين الناس في المنزلة الاجتماعية وفي المورد المالي، وتشير بمجتمع تتوفر فيه المساواة كل المساواة.
ويقوم البديل الإسلامي الذي تحدث عنه سيد قطب على نظام كلي للكون والإنسان والحياة، وما العدالة الاجتماعية سوى فرع من هذا الأصل الكبير، الذي مرجعه تعاليم الإسلام.
وقد استعان سيد قطب في تقديم البديل الإسلامي بكتابين، هما: (الإسلام والنظام العالمي الجديد) لمولاي محمد علي و(الإسلام على مفترق الطرق)، وقد استمد جوانب في الأصولية الإسلامية المعاصرة من هذين الكتابين، ومن جوانب هذه الأصولية مناهضة الثقافة الغربية ومعادتها والانغلاق على الإسلام وعلى ثقافته.
وكان سيد قطب في كتابه أقل طموحاً من صاحب الكتاب الأول، مولاي محمد علي، فالأخير في كتابه كان يدعو المجتمع الدولي، حين كان هذا المجتمع يتباحث في السنة الأولى والسنة الثانية من الحرب العالمية الثانية في إنشاء نظام عالمي جديد، إلى اعتماد الإسلام والاستناد إليه في هذا النظام، فالإسلام وحده كما رأى هو، الذي هو بمقدوره جمع الدول المختلفة كلها في عالم إنساني واحد يعمه الحب والإخاء والسلام، بينما سيد قطب في كتابه كان يخاطب المسلمين لا المجتمع الغربي أو المسيحيين. كذلك لم يكن مثله عنيفا في نقد المسيحية (مولاي محمد على هو رئيس الرابطة الأحمدية لإشاعة الإسلام بلاهور، وهذه وتلك معنيتان بمجابهة المسيحية) لكنه في ما بعد حذف العبارات من الطبعة التي قرأها مسعود الندوي، التي فيها ثناء على الدين المسيحي وتلطف في سرد تاريخه!
ومع أن سيد قطب قد استعان بالكتابين السالفين في التنظير لدولة إسلامية طوباوية، ومسعود الندوي يعلم قدر أهميتهما في الإسلام الهندي الحركي، بخاصة كتاب محمد أسيد، إلا أنه نعته بالمسكين شفقة عليه لأنه بدا له وحيداً من دون مراجع ترفده. وفي ظني أنه كان يقصد بالذين انشغلوا وانهمكوا وانغمروا في الهند وباكستان في وضع الأفكار الرامية إلى التطبيق العملي للحكومة الإسلامية، أبي الأعلى المودودي، فلا يوجد أحد ينطبق عليه هذا الوصف في الهند وباكستان سواه. فقد لحظ أن سيد قطب في كتابه لم يرجع إلى ما ترجموه من أعمال المودودي إلى العربية في دار العروبة للدعوة الإسلامية، كمنهاج الانقلاب الإسلامي ونظرية الإسلام السياسية، مع أنهم قاموا بترجمتها عام 1946، وأرسلوا نسخا منها إلى القاهرة، وكتاب سيد قطب صادر في عام 1949. ومعنى ذلك أن الذي أرسلوا إليه نسخاً من الترجمتين (في الغالب سيكون صاحب المطبعة والمكتبة السلفية، محب الدين الخطيب لأن مسعوداً كان يكتب في مجلته الفتح) لم يوزعها كما يجب. ولما رأى مسعود أن سيد قطب من خلال كتابه غافل عن كتب المودودي المترجمة إلى العربية ولا يدري عنها شيئاً، قطع وعدا، بأن إيصال كتب المودودي إليه سيكون من صميم عمله في دار العروبة، حينما يرجع إلى باكستان.
أخبرنا مسعود في الانطباع الذي سجله عن كتاب (العدالة الاجتماعية في الإسلام)، بعد أن قرأه أن هناك بعض النواقص في الكتاب وأولها تلك اللهجة الشديدة التي تحدث بها في الباب الخاص بعثمان ومعاوية وعمرو بن العاص، فهذه الحقائق المرة يمكن أن توضح بطريقة حلوة، ثم أين العدل إذا ما اتهم إسلام أسرة (هند وابي سينان) كلها بسبب أعمالها قبل الإسلام).
وكما ترون، فقد اكتفى بذكر نقيصة واحدة وكانت هي الأهم عنده.
هو لا يختلف معه في نقده لعثمان ومعاوية وعمر بن العاص، وإنما يختلف مع اللهجة الشديدة التي صاغ بها نقده، ويختلف مع اتهامه لأبي سفيان وهند بنت ربيعة ومعاوية بالنفاق وتشكيكه بإسلامهم، استنادا إلى أعمال الأول والثانية في الجاهلية، وتأخر الأخير في إسلامه.
إنه لا يختلف معه في نقده لعثمان ومعاوية وعمرو بن العاص، ولا يختلف مع حكمه أن الإسلام لم يطبق ولم يعمل به إلا مدة رسول الله ومدة أبي بكر ومدة عمر، وهو الحكم الذي كان في صدر الإسلام ما أثار استياء محمود محمد شاكر من الكتاب في أول رد له عليه مع طبعته الثانية عام 1952، لا يختلف معه في ذلك لأنه يعلم أن ذلك النقد وذلك الحكم من مقتضيات الفكرة التي بحسب ما أشار المودودي وأشار هو أن الإمام الدهلوي كان أول من قال بها. وهي الفصل بين تاريخ الإسلام وتاريخ المسلمين وبين الخلافة والخلافة والملك، على أساس أنهما متباينان ومتفاوتان.
كان مسعود في موضع سابق من كتابه (شهور في ديار العرب)، شكا من عجزهم في دار العروبة من إيصال كتب المودودي إلى مصر كما يجب، لتسد الثغرة الفكرية في دعوتهم. فإلى تاريخ زيارته إلى العراق كان أهم مؤلفات الإخوان المسلمين في ميدان الفكر، هما كتابا محمد الغزالي: (الإسلام والأوضاع الاقتصادية) و(الإسلام والمناهج الاشتراكية).
تلك الثغرة كان يعرف بأمرها مجموعة من شباب الإخوان المسلمين في مصر، وكانوا يشكون إلى زعيمهم حسن البنا أن العمل السياسي في الجماعة جاء على حساب الفكر، ولكن شكواهم لم تجد آذانا مصغية، فأنشأوا تجمعاً مستقلاً من الناحية المالية عن الجماعة، اسمه لجنة الشباب المسلم، يتلقون فيه محاضرات ثقافية، ويضم مكتبة تحمل الاسم نفسه.
الإخواني عبدالله العقيل الذي التقى مسعود الندوي في البصرة حمل معه كتب المودودي، وهو ذاهب إلى مصر للدراسة الجامعية في أواخر عام 1949، وأطلع عليها زملاءه من الإخوان المسلمين في الجامعة «وتحمسوا لطباعتها بمصر، وقام الأخ عبدالعزيز السيسي رحمه الله بطباعتها عن طريق مكتبة الشباب المسلم بالحلمية الجديدة بالقاهرة، وتم توزيعها بأعداد كبيرة في أوساط الإخوان والشباب المثقف بجامعات مصر».
وهكذا حقق العقيل ما كان يتوق مسعود الندوي إلى صنعه في مصر.
أما سيد قطب فقد تحقق ما يرجوه مسعود الندوي له عن طريق صديقه أبي الحسن الندوي، فعندما صدر كتاب الأخير (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟) عن لجنة التأليف والترجمة والنشر في القاهرة عام 1950م كان من بين مقتني الكتاب. فقد تعرف إلى مفاهيم الجاهلية والحاكمية من هذا الكتاب ومن الرسائل (أو الكتيبات) التي زوده بها حين التقاه في أول عام 1951، وهي الرسائل أو الكتيبات التي جرى ذكر بعض أسمائها في حلقات ماضية. وبعد ذلك تعرف على فكر المودودي وغرف منه، كما هو مشهور.
لعلكم تذكرون نبوءة مسعود الندوي ومحمد عاصم حداد في أول مقال من مقالات هذه السلسلة، بأن لا مستقبل أمام الكتاب الإسلامي المعاصر في الرياض، مسعود الندوي توفي بعد هذه النبوءة بما ينوف على الأربع سنوات، أما رفيقه وتلميذه، فلقد عاش وعمل في رابطة العالم الإسلامي بمكة تسعة عشر عاماً ورأى بأم عينه، أن النبوءة لم تصدق. وأخال طائفة منا تقول بحسرة: ليتها صدقت!

* باحث وكاتب سعودي