-A +A
صدقة يحي فاضل
إن «مستوى» معرفة الأشخاص الرشد يمكن تقسيمه إلى عدة أقسام قد يصل عددها إلى العشرات، ولكن، هناك من يختصر هذا التقسيم في ثلاث فئات رئيسة فقط، هي -مرتبة تصاعديا-: المتعلم، المثقف، المفكر (الفيلسوف). (المتعلم) هو: من اجتاز التعليم العام، وتخصص في أحد جوانب العلم. و(المثقف) هو: شخص متعلم إضافة إلى أنه مطلع على شتى أنواع العلوم والمعرفة، ملم بطرف من كل منها. أما (المفكر) فهو: مثقف ثقافة عالية، ولديه رؤى متكاملة لما ينبغي أن تكون عليه الأمور التي تعنيه -أكثر من غيرها- منطلقا من معرفته الواسعة بـ(ما هو كائن) (الواقع).
ويلاحظ بأن المثقف والمفكر الحقيقيين دائما ما يكونان ناقدين، وغير راضيين عن كثير من (ما هو كائن) في واقعهم. والمفكر بخاصة دائما يتطلع نحو «الأفضل».. ودائما «لا يعجبه العجب». إذ يميل المفكر، وإلى حد أقل المثقف، لانتقاد أغلب ما هو كائن، والدعوة دائما نحو (ما يجب أن يكون) -في رأيه-. ففي رأيه أن (الكمال)، أو ما يشبهه، لا يوجد إلا في ما ينبغي أن يكون ــ في رأيه. حتى أن البعض يرى أن قبول أي شخص بما هو كائن -على علاته- في أي زمان ومكان، دليل على ضيق أفق ذلك الشخص، وسذاجته، وعدم وصوله إلى درجة المثقف، ناهيك عن مستوى المفكر.

****
والواقع، أن كل ما حققه البشر من تقدم وحضارة إنما هو ناشئ من عدم القبول النهائي بـ(ما هو كائن) مهما كان حسنا، والتطلع دائما للأفضل، سواء كان ذلك الأفضل متحققا في مكان، أو زمان الشخص المعني، أو في مكان غير مكانه، وزمان غير زمانه. وحتى يعتبر التطلع إلى «الأفضل» -وليس إلى الأسوأ، أو الأقل جودة- لا بد أن يكون الأمر المتطلع إليه (ما يجب أن يكون) أفضل، بالمعايير المنطقية المتفق على صحتها علميا وعالميا، وفى إطار المرجعية القيمية الصحيحة للغالبية المعنية. وجود هذه المعايير، ورسوخها، يجعل ما هو أفضل أفضل، وما هو سيئ سيئا. ولا بد من التأكد بأن (المفضل) هو أفضل (البدائل) الممكنة، في الظروف المكانية والزمانية المعنية. علما بأن (تطوير) ودعم (ما هو كائن) معين يندرج غالبا ضمن ما يجب أن يكون.
أغلب الفلاسفة، في كل مكان، دعوا إلى (ما يجب أن يكون)، في رأي كل منهم، انطلاقا مما عايشوه من (ما هو كائن). وكتابات ومؤلفات هؤلاء تحفل بما ينبغي أن يكون.. ومن ذلك (يوتوبيات) لا يمكن وجودها إلا في خيال من قالوا بها، ومن آمنوا بها أيضا. ولكن الصبغة (اليوتوبية) محدودة.. رغم فائدتها الإلهامية الكبيرة. فهؤلاء الفلاسفة أعقل من أن يكونوا غير واقعيين، وشاطحين في الخيال. لذلك، نجد الكثير مما ينبغي أن يكون -في رأي كثير من الفلاسفة- عمليا تماما.. وقابلا للتحقق والتبني. بل إن الجزء الأكبر منه غالبا ما يكون قد تحقق وأنجز.. ومزاياه تعم الملايين، وخيره وارف في شتى الأرجاء، إضافة إلى ما قد تكون له من سلبيات.
****
يقاس مدى علم وثقافة (وتقدم) أي دولة، أو أمة، بمدى ما تمتلكه من المتعلمين والمثقفين والمفكرين، ويقاس مدى مساهمتها الفكرية في مسيرة الحضارة الإنسانية بكم ونوعية المفكرين الذين أنجبتهم، ورعت إنتاجهم الفكري. ولا يمكن -في الواقع، وكما يرى معظم العلماء والمفكرين (أساتذة المتعلمين)- أن يحسب الشخص مثقفا، أو مفكرا، ما لم يكن على درجة عالية نسبيا من (الثقافة السياسية).. وذلك باعتبار أن (السياسة) هي (الإدارة العليا للمجتمعات)، وصلاحها يعني: صلاح كل شيء آخر، وفسادها يفسد كل شيء (تقريبا) في الشأن العام.
والملفت أن كثيرا من (المتعلمين)، في عالمنا العربي، لا يحظون بقدر معقول (ومقبول) من الثقافة السياسية، والوعي السياسي. لذا، فإنهم كثيرا ما يصدمون المراقبين بضحالة معرفتهم السياسية، وسطحية وسذاجة هذه المعرفة.. الأمر الذى يجعلهم من أقل المتعلمين في العالم معرفة بشؤون وخفايا الشأن العام، لهم ولغيرهم. ويحسب ذلك الضعف من (المؤشرات) المؤكدة لتخلف معظم العالم العربي، بل والمبينة لأحد أهم مسببات ذلك التخلف.