-A +A
صدقة يحي فاضل
من أهم وأنبل القيم الإنسانية قيمة «العدالة» (Justice)...... يقول كثير من مفكري البشرية: إن أنبل وأهم خمس قيم (أو مبادئ) إنسانية، مبجلة عالميا وإنسانيا، هي: الحرية، العدالة، المساواة، الشورى، التكافل الاجتماعي. وقد انتهى هؤلاء إلى: ضرورة (وحتمية) تطبيق هذه المبادئ، وفي الإطار الديموقراطي، لتحقيق «السعادة» العامة المنشودة للبشر. وتكاد تجمع على ذلك كل الأديان، والأعراف الإنسانية السوية، صراحة وضمنا. و«العدالة» تعني – ضمن ما تعنيه - : إحقاق ما تعتبره (بالبديهة) غالبية البشر حقا، وإبطال معكوسه (الباطل) أو رفضه.... وإنفاذ ذلك بحيادية ونزاهة، وبصرف النظر عن «المصالح» الخاصة للمعنيين. وهذا ما يشار إليه بـ «العدالة المجردة"، والتي يصفها البعض بـ«الكاملة».
ولسنا هنا بصدد «التأريخ» لهذا المفهوم، أو تتبع أبرز ملامح تطوره عبر العصور، ولا بصدد التأكيد على «مثالية» هذه القيمة - النسبية.... والتي على رغم اتسامها بذلك، إلا أن العقلاء يدعون لتطبيقها، لأقصى ما تسمح به الظروف. فالكمال لله سبحانه وحده. وبالتالي، قل أن يستطيع إنسان – مهما بلغ من النبل – أن يكون عادلا..... وبنسبة مئة بالمئة. فالمطلوب، إذا، هو العدالة شبه الكاملة، كحد أعلى.

ومن لا يتحرى العدالة في سلوكياته، وأقواله وأفعاله، فهو إلى «الظلم» أقرب..... حيث إن النقيض العام للعدالة هو «عدم العدالة»، أو «الظلم».... الذي هو ظلمات. ومن لا يكترث بتحقيق العدالة، أو يتلاعب بها، ويخالفها، فهو ظالم.... لا يمكن – ولا يجب – احترامه بحق، مهما كان موقعه.... ولابد من سقوطه، أو إسقاطه، عاجلا أو آجلا. وظلمه يؤلب عليه كل من يتضرر منه مباشرة أو غير مباشرة. أما متحري العدالة – لأقصى ما يمكن – فإنه غالبا ما يكون محترما، وأقدر على تحقيق مصالحه، مما لو كان ظالما. وهذا جانب يظهر الفارق بين أسوياء البشر، وعقلائهم وغيرهم.
****
ولعل أبرز ما يميز «النظام العالمي» على مر العصور – ممثلا بالقوى المتنفذة فيه – هو: الظلم – أو الـ«غابية»، نسبة إلى الغابة - كما يلاحظ علماء ودارسو العلاقات الدولية.... رغم أن «التقدم» الحضاري والإنساني الهائل الذي وصل إليه الإنسان، خاصة في هذا العصر، قد خفف قليلا من درجات هذا الظلم، وهذه «الغابية». وغالبا ما تدعي القوى المتنفذة، في كل نظام عالمي، أنها راعية وحامية لكل المبادئ السامية، وفي مقدمتها: الحرية، والعدالة، والمساواة. وكثيرا ما تكون من أكثر الأطراف تلاعبا بهذه المبادئ، ومخالفة لها، وخاصة خارج حدودها.
****
ولعل أكثر المبادئ تضررا من قبل هذه القوى المتنفذة هو مبدأ «العدالة»...... التي كثيرا ما يحولها هؤلاء إلى: إحقاق الباطل، وإبطال الحق.... وحسب كل حالة على حدة.... وإلباس كل حالة لبوس يتناسب ومصالحهم. فما يتفق مع هذه المصالح يعتبر حقا، وما يتعارض معها، من قريب أو بعيد، يعتبر باطلا. وما يعتبر حقا اليوم قد يحسب باطلا غدا.... تبعا لتغير الظروف والأحوال. العدالة – في مفهوم هؤلاء – هي: مكمن المصلحة الاستعمارية والخاصة...... فكل ما يخدم هذه المصلحة عدلا وحقا، وكل ما يعيقها ظلما وباطلا. إنها «العدالة الإمبريالية».... تلك العدالة القاصرة التي تسود - مع الأسف - الساحة الدولية حتى الآن.
وقد تجلت – أكثر ما تجلت – فيما يجرى في منطقتنا، التي يسمونها «الشرق الأوسط»، من أحداث جلل. والأمثلة على ما ذكر أكثر من أن تعد وتحصى. ففور توفر الرغبة الاستعمارية في إنفاذ أمر ما، غالبا ما تلفق «الأدلة»، وتعقد المحاكمات، وتصدر الإدانة، يتبعها العقوبات (الجاهزة). كما كان مجرد «الاشتباه» بوجود أسلحة دمار شامل في العراق، مبررا لغزو العراق، واحتلاله، وتدميره. بينما امتلاك الكيان الصهيوني العدواني لكل أنواع أسلحة الدمار الشامل، وغير الشامل، يعتبر شيئا لا يجب حتى الحديث بشأنه؟! بل إن من يعارض أفعال هذا الكيان يحسب «إرهابيا».... يهدر دمه وماله وحتى عرضه؟!
من أكبر مآسي العلاقات الدولية أن القوى المتنفذة فيها كثيرا ما تملأ الدنيا ظلما وجورا.... نتيجة لتطبيقها لمفهوم «العدالة الإمبريالية»، وعدم الاكتراث بالعدالة الحقة... وهو تحد يجب أن تواجهه الإنسانية (ممثلة بكل الخيرين فيها) بما ينهيه، أو يقلصه، في الممارسة السياسية الدولية. فتبعات الظلم خطيرة ومأساوية، وتمس بلهيبها كل المعنيين، سواء عاجلا، أو آجلا.