-A +A
عبدالله بن فخري الأنصاري
الاتفاق التاريخي حول التسوية السياسية بين البروتستانت والكاثوليك في إيرلندا الشمالية يؤكد على أن الحل السياسي والعدل الاجتماعي ورعاية حقوق الإنسان هي الأوفر حظا لتحقيق السلام والاستقرار. فمنذ تقسيم بريطانيا لجزيرة إيرلندا في عام 1921، وإعلان استقلال إيرلندا عن الجزء الشمالي منها، قبعت الأخيرة تحت سطوة تشريعات الطوارئ، والإجراءات الاستثنائية الخاصة التي أدت إلى انتهاك منهجي للحقوق والحريات الشخصية منها استخدام أساليب تعذيب ضد المعتقلين للحصول على المعلومات والاعترافات. وفي مارس من العام 1972 ألغت الحكومة البريطانية البرلمان الإيرلندي وأعادت فرض حكمها المباشر على إيرلندا الشمالية إثر أحداث ما يعرف «بيوم الأحد الدامي» الذي سقط فيه 13 كاثوليكياً على أيدي الجنود البريطانيين، حيث تواصل العنف الطائفي بعدها على يد الجيش الجمهوري الإيرلندي طيلة ثلاثة عقود مما أدى إلى مقتل أكثر من 3.000 شخص. وقامت الحكومة البريطانية خلال تلك الفترة بسن تشريعات وإجراءات استثنائية بدءا بقوانين أحكام الطوارئ. فقد رأت الحكومة البريطانية آنذاك وبتوصية من لجنة «اللورد ديبلوك» أن المحاكم الجنائية والأنظمة والإجراءات الجزائية العادية غير ملائمة للحفاظ على الأمن والنظام العام. وقامت بسن تشريعات وإجراءات استثنائية تحكم إجراءات التحقيق الابتدائي (منها صلاحيات واسعة للاعتقال والقبض والاحتجاز لمدد طويلة دون توجيه تهمة، وصلاحيات شاملة للتفتيش وجمع الأدلة والحجز التحفظي على الأدلة، والتغاضي عن حق المتهم في التزام الصمت، وتقليص حقه في التوكيل والاستعانة بمحامٍ وحضوره جلسات التحقيق، وحق المتهم للفحص الطبي...الخ). كما قامت بإنشاء محاكم خاصة تعرف «بمحاكم ديبلوك» تخضع لقواعد تميزها عن المحاكم الجنائية العادية تتمثل في أنظمة خاصة تحكم تشكيل المحكمة (منها إلغاء العمل بهيئة المحلفين)، ونطاق خاص للسلطة القضائية لهذه المحاكم (منها جرائم عديدة في القانون العام وأخرى متعلقة بالارهاب)، وإجراءات خاصة تحكم سير المحاكمات (منها تغيير القوانين المتعلقة بقبول الاعترافات كأدلة، وتغييرعبء الإثبات من المدعي العام الى المتهم، وحرية المحكمة في الوصول إلى استنتاجات واستدلالات معاكسة بناءً على سكوت المتهم، والإجراءات الخاصة المتعلقة بإيقاع العقوبة، وتوقيع عقوبات صارمة تفوق مايتقرر في مثيلاتها من المحاكم الجنائية العادية، والإجراءات الخاصة المتعلقة بحق المتهم في التمييز...الخ). وقد أدى تبني هذه الإجراءات الاستثنائية إلى تقليص حقوق الإنسان الأساسية، ومخالفة قوانين الإجراءات الطبيعية المحلية حتى باتت بريطانيا من أكثر الدول خرقا للاتفاقية الأوربية وحقوق الإنسان. كما تحولت هذه الإجراءات إلى جزء من المشكلة وليس جزءا من الحل. حيث خلقت الظروف الملائمة لتزكية روح العنف والإرهاب، حاول فيها الجيش الجمهوري الإيرلندي تبني سياسات مناوئة لهذه الإجراءات وتصعيد أعمال العنف مما أدى بالحكومة البريطانية إلى تبني إجراءات استثنائية أشد غلظة. إلا أن كل منصف يدرك أن الذي قصم ظهر الإرهاب في إيرلندا الشمالية إلى حد كبير هو تبني الحلول السياسية التي أدت إلى إعلان الجيش الجمهوري الإيرلندي لوقف إطلاق النار في العام 1994 وهو الأمر الذي مهد إلى تبني «اتفاقية الجمعة العظيمة» مما أدى إلى تراجع الاتجاه المتشدد داخل الجيش الجمهوري الإيرلندي حتى العام 2005 الذي أعلن فيه الجيش تخليه عن السلاح الذي توج أخيرا بالتسوية السياسية الشاملة. إنه من غير المنطقي الظن أنه يمكن كسب المعركة ضد الإرهاب فقط بتبني الإجراءات الأمنية والقانونية الاستثنائية ودون معالجة الأسباب الاجتماعية والسياسية التي خلقت بيئة خصبة تغذي العنف وتنشطه. هذا ما أشار إليه رئيس الوزراء البريطاني توني بلير في قوله: «إن هناك بعض الأمور التي تمثل التحدي الأساسي للديمقراطية أكثر من الإرهاب بجميع أشكاله... يجب علينا محاربة الإرهاب مع تمسكنا بالمبادئ الديمقراطية وسيادة القانون. يجب علينا أن نضاعف جهودنا لإنجاز عملية التسوية السياسية في إيرلندا الشمالية، التي وحدها يمكن أن تجلب السلام الدائم». أما إذا استمر استخدام التدابير الاستثنائية لأسباب غير عادلة، فسوف تصبح تلك الإجراءات سببا رئيسيا لتوليد المزيد من الكراهية والإرهاب وبالتالي عدم الاستقرار في أنحاء العالم. فلا بد من إيجاد توازن بين الحل السياسي والحل الأمني من جهة وبين سن التشريعات والإجراءات الاستثنائية اللازمة للحد من خطر الإرهاب والحريات العامة والحقوق الفردية من جهة أخرى.