الصديق والكاتب في جريدة «الحياة» أحمد الحناكي كتب مقالاً السبت الماضي بعنوان «مَن عدونا الحقيقي؟» يعترض فيه على تغريدة لي نصها «تطفح خطاباتنا بعداء الغرب، ميل تلقائي لهذا العداء، ما نعيشه يبين أن العدو الحقيقي هو روسيا. خطيئة الغرب تنحصر في دعم إسرائيل واللامبالاة»، وعلى تغريدتين أخريين للدكتور توفيق السيف ولي عن الموضوع نفسه. وإذ أشكر الصديق أحمد على إثارة الموضوع وتوسيع النقاش حوله، سأطرح في هذه المقالة رأياً موسعاً في الموضوع.
الصور المشكلة لماهية أمريكا في أذهاننا مبنية على أساس حقائق تاريخية حول طبيعة حضورها في منطقتنا في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وليس على أساس حقائق خاصة بها كأمة ودولة عظمى. وعادة ما تتشكل المواقف والاتجاهات حيالها على أساس هذا الوعي المُثقل بحمولة التاريخ. هذا التشكل يجعل «المسألة الأمريكية» محفوظة أبداً داخل مقاربات لا تريم عن نعت أمريكا بأوصاف العداء أيًّا كان نهجها الآني في المنطقة.
بالعودة إلى مقال الحناكي، يرى أحمد أن أمريكا «عاثت وتعيث فساداً في المنطقة منذ ذلك التاريخ (أي بعد أحداث سبتمبر الشهيرة) بشكل أكثر شراسة من قبل»، فيما يرى أن عدم تدخلها في سورية لأن «بقاء الوضع الفوضوي هناك في مصلحتها ومصلحة العدو المحتل». إنها الصورة الشائعة ذاتها: أمريكا شريرة لإرسال قواتها إلى العراق وأمريكا شريرة أيضاً لعدم إرسال قواتها إلى سورية. من البديهي إدانة أمريكا على احتلالها المتغطرس للعراق، كما أن من البديهي أيضاً إدانتها لقلة اكتراثها بالمأساة السورية. لكن علينا حين نفعل أن ننطلق من مقاربة متجانسة، والأهم حيوية ومرنة. مقاربة قادرة على تقديم تفسيرات ذات صدقية لكل من هجوم أمريكا على العراق وإحجامها عن لجم الأسد.
لقد عبّرت أمريكا اليمينية المحافظة المجروحة عن غضبها من هجمات سبتمبر بغزو ظالم غاشم للعراق تلاه إدارة بالغة السوء. ترك هذا كله أثره على المزاج الشعبي الأمريكي الذي ملّ التدخلات الفاشلة في الشرق الأوسط، فاختار قائداً يرى أن التوسع الإمبراطوري المبالغ فيه في غير صالح بلاده. وبناء عليه، طور منظوراً إستراتيجياً قليل الإيمان بجدوى الاستثمار السياسي في منطقة الشرق الأوسط، خاصة بعد المآلات السيئة للربيع العربي.
هيلاري كلينتون أفصحت عن نقاشاتها مع أوباما حول المسألة واختلافهما عليها. أوباما، حامل الذاكرة الملذوعة من تهور بوش، جادل وزيرة خارجيته بأن تدخل أمريكا في حرب أهلية محض انجراف نحو مستنقع لن يقل عن مستنقع العراق. ليس أوباما وحده من يرى ذلك. كل العقل السياسي الأمريكي تغير بعد تجربة العراق. لا كلينتون ولا ترامب في وارد إرسال قوات برية إلى المنطقة مجدداً. ببساطة، أمريكا تعلمت من قسوة الدرس العراقي، وإن كانا أقل من أوباما تبنياً لنهج الانكفاف عن لعب أي أدوار. فكلينتون مثلاً مع تدخل جوي نشط.
نحن إذن أمام سرديتين لتصرف أمريكا في العراق وسوريا. الأولى ترى أن سلوكها تحكمه إستراتيجية واحدة متماسكة قصدها إحداث الفوضى ونشرها. فيما ترى الثانية أن تصرفها في سورية رد فعل لفشلها في العراق. ما هو الفارق بين السرديتين؟ السردية الأولى ذات رؤية جامدة لدولة هي الأقوى في عالم اليوم من ناحية وهي الحليف التاريخي للمملكة العربية السعودية في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية من ناحية أخرى.
هذا الجمود يفوّت الفرصة لاستثمار التحولات التي قد تطرأ على المنظور الإستراتيجي لدولة تتداول فيها السلطة، الأمر الذي يسمح بتعاقب رؤى مختلفة لماهية مصالح الدولة وسبل تحقيقها، وهذا ما يفسر تقلّب سلوكها بين التدخل الظالم والإحجام اللامبالي. الفهم لسلوك دولة ما بوصفه تحولات ونتيجة لتفاوضات داخل دوائر الحكم إضافة إلى طبيعة التطورات التي تعيشها منطقتنا تجعلان من غير المفهوم، بالنسبة لي على الأقل، الاستمرار في إعادة إنتاج الخطاب المعادي للغرب. فمصالحنا، ونون «النحنية» هنا لا تعود إلى العرب بشكل عام بل بطبيعة التحالفات التي نشطت في الخمس سنوات الأخيرة، كالتحالف العربي في اليمن ومن يطالبون برحيل الأسد، تتطلب منّا أن نرّشد معرفتنا و«نحدّثها» لتتوافق مع المتغيرات التي تطرأ.
الجذور السياسية لعدائنا للغرب تعود لسلوك القوى الأوروبية بعد الحرب العالمية الأولى ثم للنصرة الأمريكية الظالمة لإسرائيل، والتي نكتت في وجداننا جرحاً لا يندمل، خاصة منذ ستينات القرن الماضي. أدرك هذا. لكن إدامة هذا العداء خطأ كارثي. فاليابان سامت الكوريين سوم العذاب أثناء استعمارهم والأمريكان ألقوا قنابل ذرية على اليابان. والثلاثة اليوم جزء من تحالف رأسمالي عولمي. الغرب لا يساعد الأسد. وأمريكا حليف في «عاصفة الحزم». الغاضبون من انسحاب أمريكا الأوبامية في منطقتنا لا يقلون عن الغاضبين من تدخل أمريكا البوشية.
إن خصمنا الآني الذي بدأنا نستشعر بشبه خطر وجودي منه، أقصد إيران، يتسق في تحالفاته وحتى في أنشطته العسكرية، على الأقل حتى الآن، مع روسيا وليس مع أمريكا. تقّصد الخطاب أمريكا بالعداء وإهمال حقيقة أن روسيا هي من يدك المدن السورية بالحمم هو ما يثير حيرتي أولا وآخراً. لا أظن أن لغة الخطاب اليومي في إيران تتزنر بعداء روسيا، فالقوم يدخرون الروس لقادم الأيام. الأدهى إن كانوا يخططون لتجيير الأمريكان لصالحهم أيضاً، كما يوحي مقال وزير خارجية إيران في النيويورك تايمز الثلاثاء الماضي.
salam22@gmail.com
الصور المشكلة لماهية أمريكا في أذهاننا مبنية على أساس حقائق تاريخية حول طبيعة حضورها في منطقتنا في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وليس على أساس حقائق خاصة بها كأمة ودولة عظمى. وعادة ما تتشكل المواقف والاتجاهات حيالها على أساس هذا الوعي المُثقل بحمولة التاريخ. هذا التشكل يجعل «المسألة الأمريكية» محفوظة أبداً داخل مقاربات لا تريم عن نعت أمريكا بأوصاف العداء أيًّا كان نهجها الآني في المنطقة.
بالعودة إلى مقال الحناكي، يرى أحمد أن أمريكا «عاثت وتعيث فساداً في المنطقة منذ ذلك التاريخ (أي بعد أحداث سبتمبر الشهيرة) بشكل أكثر شراسة من قبل»، فيما يرى أن عدم تدخلها في سورية لأن «بقاء الوضع الفوضوي هناك في مصلحتها ومصلحة العدو المحتل». إنها الصورة الشائعة ذاتها: أمريكا شريرة لإرسال قواتها إلى العراق وأمريكا شريرة أيضاً لعدم إرسال قواتها إلى سورية. من البديهي إدانة أمريكا على احتلالها المتغطرس للعراق، كما أن من البديهي أيضاً إدانتها لقلة اكتراثها بالمأساة السورية. لكن علينا حين نفعل أن ننطلق من مقاربة متجانسة، والأهم حيوية ومرنة. مقاربة قادرة على تقديم تفسيرات ذات صدقية لكل من هجوم أمريكا على العراق وإحجامها عن لجم الأسد.
لقد عبّرت أمريكا اليمينية المحافظة المجروحة عن غضبها من هجمات سبتمبر بغزو ظالم غاشم للعراق تلاه إدارة بالغة السوء. ترك هذا كله أثره على المزاج الشعبي الأمريكي الذي ملّ التدخلات الفاشلة في الشرق الأوسط، فاختار قائداً يرى أن التوسع الإمبراطوري المبالغ فيه في غير صالح بلاده. وبناء عليه، طور منظوراً إستراتيجياً قليل الإيمان بجدوى الاستثمار السياسي في منطقة الشرق الأوسط، خاصة بعد المآلات السيئة للربيع العربي.
هيلاري كلينتون أفصحت عن نقاشاتها مع أوباما حول المسألة واختلافهما عليها. أوباما، حامل الذاكرة الملذوعة من تهور بوش، جادل وزيرة خارجيته بأن تدخل أمريكا في حرب أهلية محض انجراف نحو مستنقع لن يقل عن مستنقع العراق. ليس أوباما وحده من يرى ذلك. كل العقل السياسي الأمريكي تغير بعد تجربة العراق. لا كلينتون ولا ترامب في وارد إرسال قوات برية إلى المنطقة مجدداً. ببساطة، أمريكا تعلمت من قسوة الدرس العراقي، وإن كانا أقل من أوباما تبنياً لنهج الانكفاف عن لعب أي أدوار. فكلينتون مثلاً مع تدخل جوي نشط.
نحن إذن أمام سرديتين لتصرف أمريكا في العراق وسوريا. الأولى ترى أن سلوكها تحكمه إستراتيجية واحدة متماسكة قصدها إحداث الفوضى ونشرها. فيما ترى الثانية أن تصرفها في سورية رد فعل لفشلها في العراق. ما هو الفارق بين السرديتين؟ السردية الأولى ذات رؤية جامدة لدولة هي الأقوى في عالم اليوم من ناحية وهي الحليف التاريخي للمملكة العربية السعودية في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية من ناحية أخرى.
هذا الجمود يفوّت الفرصة لاستثمار التحولات التي قد تطرأ على المنظور الإستراتيجي لدولة تتداول فيها السلطة، الأمر الذي يسمح بتعاقب رؤى مختلفة لماهية مصالح الدولة وسبل تحقيقها، وهذا ما يفسر تقلّب سلوكها بين التدخل الظالم والإحجام اللامبالي. الفهم لسلوك دولة ما بوصفه تحولات ونتيجة لتفاوضات داخل دوائر الحكم إضافة إلى طبيعة التطورات التي تعيشها منطقتنا تجعلان من غير المفهوم، بالنسبة لي على الأقل، الاستمرار في إعادة إنتاج الخطاب المعادي للغرب. فمصالحنا، ونون «النحنية» هنا لا تعود إلى العرب بشكل عام بل بطبيعة التحالفات التي نشطت في الخمس سنوات الأخيرة، كالتحالف العربي في اليمن ومن يطالبون برحيل الأسد، تتطلب منّا أن نرّشد معرفتنا و«نحدّثها» لتتوافق مع المتغيرات التي تطرأ.
الجذور السياسية لعدائنا للغرب تعود لسلوك القوى الأوروبية بعد الحرب العالمية الأولى ثم للنصرة الأمريكية الظالمة لإسرائيل، والتي نكتت في وجداننا جرحاً لا يندمل، خاصة منذ ستينات القرن الماضي. أدرك هذا. لكن إدامة هذا العداء خطأ كارثي. فاليابان سامت الكوريين سوم العذاب أثناء استعمارهم والأمريكان ألقوا قنابل ذرية على اليابان. والثلاثة اليوم جزء من تحالف رأسمالي عولمي. الغرب لا يساعد الأسد. وأمريكا حليف في «عاصفة الحزم». الغاضبون من انسحاب أمريكا الأوبامية في منطقتنا لا يقلون عن الغاضبين من تدخل أمريكا البوشية.
إن خصمنا الآني الذي بدأنا نستشعر بشبه خطر وجودي منه، أقصد إيران، يتسق في تحالفاته وحتى في أنشطته العسكرية، على الأقل حتى الآن، مع روسيا وليس مع أمريكا. تقّصد الخطاب أمريكا بالعداء وإهمال حقيقة أن روسيا هي من يدك المدن السورية بالحمم هو ما يثير حيرتي أولا وآخراً. لا أظن أن لغة الخطاب اليومي في إيران تتزنر بعداء روسيا، فالقوم يدخرون الروس لقادم الأيام. الأدهى إن كانوا يخططون لتجيير الأمريكان لصالحهم أيضاً، كما يوحي مقال وزير خارجية إيران في النيويورك تايمز الثلاثاء الماضي.
salam22@gmail.com