-A +A
عبداللطيف الضويحي
إذا وقع حادث المرور للمرة الأولى، فالخلل بسائق السيارة أو بالسيارة، وإذا وقع الحادث في نفس المكان للمرة الثانية، فالخلل بنظام المرور، وإذا وقع الحادث في ذات المكان للمرة الثالثة فالخلل بالطريق ونظام المواصلات. وإذا تكررت الحوادث في ذات المكان أكثر من ذلك، فلأن المسؤول المباشر بلا رقيب، أو لأن الإنسان بلا قيمة.
لدينا ثقافة اجتماعية تحتاج للوقوف عندها ومراجعتها لكي لا تصبح مرضاً خفيا يتسبب بعلاج أمراض أخرى غير موجودة أو يتسبب بعلاج أسباب ليست جوهرية.

عندما نواجه مشكلة نبحث عن شماعة نعلق عليها كل أسباب ظاهرة من الظواهر بل وكل الإخفاقات التي نواجهها بصفتنا الشخصية أو بصفتنا المهنية.
وحين نجد خيطا ولو رفيعا نصنع من الحبة قبة ونحملها كل الظاهرة، ولا نحيد عنها أبدا.
وليس لدينا الاستعداد النفسي والهاجس البحثي للوقوف على أسباب أخرى ذات صلة.
ظل المرور عشرات السنين يقنعنا ويؤكد بأن السرعة هي سبب ارتفاع نسبة حوادث المرور عندنا في المملكة. حسنا.. ماذا عن الأسباب الأخرى ؟ قد تكون السرعة أحد الأسباب الرئيسة لكن لايمكن القبول منطقيا بأن سببا واحدا وراء نتيجة واحدة لعشرات السنين وإلا فإن هذا يعني خللا أخلاقيا وقيميا يقف وراء هذه الظاهرة.
ثم هل السرعة بسبب السيارة أم بسبب السائق؟ المرور في هذه الحالة لا يريد أن يبحث في أسباب أخرى عندما يصر على أن السرعة هي السبب لاعتقاده ربما أنه يناقض نفسه أو أنه يقلل من أهمية عامل السرعة فيما لو ذكر أن الطريق أحد الأسباب أو أن رجل المرور سبب ثالث.
هذه ليست مشكلة المرور فحسب، لقد نهج التعليم نفس المنهجية عندما أصر على أن مشكلة تدني مستوى الطلاب في التعليم العام هي نتيجة غياب دور الأسرة لسنوات طويلة ولا نعرف كيف وصل التعليم لهذه القناعة فلصق تدني مستوى التعليم بغياب دور الأسرة، وقد تكون حقيقة وقد يكون التعليم مقتنعا لكني لا أعرف كيف عمم التعليم تلك القناعة على كل الطلاب وكل الأسر دون دراسة ودون إحصاءات ولا يمكن أن يكون السبب الوحيد وراء هذه الظاهرة.
لقد تمت برمجة الرأي العام والمجتمع بطريقة لا تحفز عن البحث في الأسباب الحقيقية كلها ولا تستفز الأسئلة الجوهرية حتى تمت تعمية كاملة من خلال تبني سبب واحد لكل مرحلة، فصدق الناس وتم تمييع الظاهرة وتغييب أسبابها ومعها ظواهر تعليمية كثيرة بسبب هذه الرواية دون فحص أو اختبار أو دراسة.
الأمر نفسه تكرر مع ظاهرة الإسراف بالمياه عندما تم تحميله سبباً واحدا، فلما شبع وتشبع هذا السبب، تم لصقه بالوعي وتكررت القصة مع مقاومة التغيير من قبل قوى اجتماعية محافظة مثل مقاومة إدخال الرياضة لمدارس البنات ومقاومة انخراط المرأة في مهنة التمريض وتحدي قيم المجتمع بدخول سعوديين لمهن جديدة ومقاومة الزواج من غير السعوديين والسعوديات.
كذلك مقاومة ابتعاث المرأة لخارج المملكة وأحيانا خارج مدنهن.
كل هذه الظواهر تم تقديمها للرأي العام بسبب واحد وكان هذا بمثابة تعمية مقصودة أو غير مقصودة ناتجة عن ذات السبب وهو ثقافة الشماعة.
ما أود طرحه هنا ليس هناك مشكلة تخص التعليم لوحده أو المرور لوحده أو الأسرة لوحدها أو كبار السن لوحدهم. المخدرات والعنف والقبائلية والتطرف والغلو والطائفية تدخل في كل ما سبق وأكثر.
ليس مقبولا من الصحة أن تقدم تقريرا عن العنف كنتيجة لظروف اجتماعية. لا يمكن أن أفهم تقريرا ينسب الفقر إلى عامل واحد أو يلصق البطالة بأعمار معينة، ولا يمكن أن أفهم تقريرا عن الطلاق من وزارة الشؤون الاجتماعية أو وزارة العدل، ومن غير المنطقي القبول بحتمية السبب الواحد مع الدراسات الحقيقية ووضع الفرضيات الصحيحة وطرح الأسئلة الجوهرية والشاملة. أصبحنا كائنات موضة نكتفي بالإجابات المخدرة لا تكترث للإجابات التي تحفر في الوعي ولا نبالي للعلاقات بين الظواهر المتجددة.
مطلوب إيجاد مطبخ محترف وطباخين محترفين يتم تحويل كل الظواهر في المجتمع وكل المشكلات التي يعاني منها الجهاز الحكومي أو القطاع الخاص الرجل أو المرأة من عنف وفقر وبطالة وتعصب وقبائلية وطائفية وعنصرية ومهايط وتدني الروح المعنوية وتحويل كل هذه المتناقضات وغيرها لتصب في هذا المطبخ البحثي الاستقصائي. لكي لا تكون مشكلاتنا موضة وحلولها وجاهة.
ولكي لا يقع الحادث المروري مئة مرة في نفس المكان ونصر على أنه حادث بسبب سرعة مراهق.