-A +A
د. طلال صالح بنان
اليوم، أيضاً، تمر ذكرى أليمة على العرب. في مثل هذا اليوم من ربع قرن زحف الجيش الإسرائيلي على لبنان، حتى أضحى في قلب بيروت، لتكون أول عاصمة عربية كادت تسقط تحت جحافل جيش إسرائيل بقيادة إيريل شارون. وما يؤلم أكثر في هذه الذكرى، أنها جاءت بعد ما يعتبره البعض أول نصر عربي على إسرائيل، في أكتوبر 1973. وجاءت بعد أكثر آثار ذلك النصر سلبية على النظام العربي، عندما اختارت بعض الدول العربية السلام مع إسرائيل، لينفرط عقد الإجماع العربي، لمواصلة الصراع، الذي تمخض عن قمة الخرطوم 1967.. وتجلى في حرب أكتوبر 1973
المأساة تكمن في أن العرب، بعد حرب 1973 التي انتصروا فيها عسكريا، وبعد ذلك انتكسوا عقبها سياسياً، اسقطوا من خياراتهم لإدارة الصراع مع إسرائيل أداة الحرب. بينما إسرائيل ظلت متمسكة بخيار العنف والحرب وحتى الإرهاب المنظم، لإدارة صراعها مع العرب. حرب 1973 أرادها العرب آخر الحروب، بينما إسرائيل أرادتها آخر انتكاساتها العسكرية.. وبدء مرحلة جديدة من إدارة الصراع، عن طريق العنف، من جانب واحد، في ظل تفوق إسرائيلي كاسح في موازين القوى التقليدية وغير التقليدية، مقابل العرب. لم تهب دولة عربية واحدة لنصرة لبنان أثناء ذلك الاجتياح، عسكرياً، ولا حتى بالدعم السياسي الجماعي المنظم... ظاهرة تجلت في كل مرحلة من مراحل «العربدة» الإسرائيلية العنيفة، بعد حرب 1973، كان آخرها وأكثرها مرارة حرب الثلاثة والثلاثين يوماً في الصيف الماضي، على لبنان.

رغم فضح صورة إسرائيل العسكرية وإظهارها على صورتها المحدودة والضعيفة، أمام مليشيات غير نظامية، حالت دون إسرائيل وتكرار الآثار السياسية والاستراتيجية لحملة اجتياح لبنان قبل ربع قرن، إلا أن العرب الذين ارتهنوا لما أسموه خيار السلام الاستراتيجي، لم يتحركوا لدعم جبهة لبنان المشتعلة، فيما لم تتمكن إسرائيل، هذه المرة، من احتلال أي جزء من لبنان والبقاء فيه مدة طويلة.. حتى ان إسرائيل استنجدت بأمريكا وأوروبا ومجلس الأمن لوقف القتال، لتبدأ على الفور سحب فلولها المنكسرة من جنوب لبنان. تجربة عنيفة لإدارة الصراع، قامت بها مليشيات غير نظامية في لبنان، والعبرة من هذه الحرب أن تحقيق الحسم في حركة الصراع مع إسرائيل، يحتاج إلى إرادة سياسية ماضية، مثل تلك التي تجلت بعد هزيمة حرب الأيام الستة. حرب الصيف الماضي التي شنتها إسرائيل على لبنان، أثبتت أن هزيمة إسرائيل ممكنة.. والتوصل إلى سلام حقيقي أكثر احتمالاً... فقط إذا تخلى العرب عن «السلام» من جانب واحد.
ولكن اجتياح لبنان من قبل إسرائيل في مثل هذا اليوم من عام 1982، مثل ما هو حال كل حروب إسرائيل مع العرب، لم تستطع إسرائيل أن تحقق أهدافها السياسية، منه... بل ان الجيش الإسرائيلي ظهرت إمكاناته المحدودة في إدارة حرب تقليدية وكسبها، رغم تفوقه العسكري الكاسح. لقد تمكنت المقاومة الفلسطينية واللبنانية من الصمود.. وكان لهما الفضل الأول، في عدم تمكن شارون من احتلال أول عاصمة عربية، وإن كانت جيوشه وصلت إلى مشارفها، بل وحتى توغلت داخلها، ولكن بيروت لم تسقط كما سقطت باريس في يد الألمان عام 1940، وكما سقطت برلين وروما في يد الحلفاء في نهاية الحرب العالمية الثانية. بيروت لم تسقط بفعل ذلك الاجتياح، كما أنها لم تطلب الاستسلام.. وكذلك عجزت القوة الإسرائيلية الزاحفة إلى وسط بيروت من أن تقضي على المقاومة الفلسطينية.. أو تنال من قيادتها العسكرية وعامتها العسكرية، وإن أجبرت منظمة التحرير الفلسطينية، بعد ذلك، على إنهاء وجودها المسلح في لبنان. وكانت قمة الهزيمة العسكرية والسياسية لذلك الاجتياح الإسرائيلي في لبنان، في بعده الأخلاقي والإنساني، بعد أن تحدرت قيم وأخلاقيات الجيش الإسرائيلي، لتعكس تدني وضعها المعنوي، إلى مستوى المشاركة أو المساعدة على تدبير مجازر مخيمي صبرا وشاتيلا الفلسطينيين، بعد أن فقدوا حماية مقاتلي منظمة التحرير، لترتكب أفظع مجازر عرفها البشر في التاريخ الحديث، اعترفت بها إسرائيل وأُدين بسببها شارون، حتى كاد يخسر مستقبله السياسي... ولكن إسرائيل الكيان، لا يمكن أن يستمر بغير شخوص شيطانية، في صورة بشر، مثل شارون.
ذكريات أليمة تمر بالعرب، هذه الأيام... ولكنها، في حقيقة الأمر هي أشد مرارة على العدو، الذي لم يستطع أن يحقق أيّاً من أهدافه السياسية من وراء افتعاله لمآسيها... ولكن ذاكرة العرب تستسهل استرجاع البدايات المؤلمة، ولا تتذكر ملاحم خوضها.. وحقيقة فشل إسرائيل ــ إلى اليوم ــ من تحقيق ما ترنو إليه من «سلام» وفق شروطها، رغم ما يبدو من ضعف العرب، الذي هو «معشش» في ذاكرتهم، ولكن ـــ مما يبعث على التفاؤل ـــ ليس «متملكاً» من ضميرهم، بعد.