-A +A
حمد عائل فقيهي
(1)
في حالة كحالة الأمة العربية تملك تراثاً عميقاً وعريقاً وتتعزز أهمية هذا العمق وهذه العراقة بمكون ديني أعطاها وهج الحضور الإنساني والحضاري ومنحها الحيوية التي تشكل واجهة هذا الحضور في أبهى تجلياته وأقصى مراميه وأهدافه.. في حالة تتكئ على مرجعية حضارية يتداخل فيها الدين والعرق والتاريخ مع ما أنتجه العقل العربي والوجدان العربي من فكر وشعر وهندسة وفلك وطب في مثل هذه الحالة يجد المرء نفسه أمام حضور بهي لشعر المتنبي وأبي تمام وأبي نواس والمعري وفي مجاورة راقية ورفيعة مع فكر ابن رشد وأبي حيان التوحيدي والجاحظ وبذور النظر الاجتماعي عند ابن خلدون وصوفية ابن عربي والنفري والبسطامي ثم الإنجازات العلمية عند أطباء وعلماء العرب الأوائل كابن سيناء مثلاً والإضافة المعرفية والإبداعية التي بدأت مع نهاية القرن التاسع عشر وإطلالة القرن العشرين.. ومع كل هذه البانوراما لما أبدع وأنجز عربيا.. من هنا برز هذا السؤال ماذا بقي من العبقرية العربية في الراهن العربي بكل سياقاته المعرفية والعلمية والثقافية والاجتماعية.. وبمعنى آخر، هل شكلت الثقافة العربية وعياً ناهضاً ولافتاً كما يجب.. أن يبرز ويضيء..؟

أخال أن الواقع لا يشير كثيراً إلى استفادة العرب من هذا التراكم المعرفي الهائل الذي كتبه الأوائل والذي اختزنته الكتب ولم تختزنه الذاكرة.. لقد تعامل الإنسان العربي مع ثقافته بوصفها «ركاماً» من الكتب لا «تراكماً» من المعرفة والإبداع.. وأحسب أيضاً أن الدور الذي كان يؤديه الجامع/ المسجد قد غاب تماماً بوصفه منارة علم ونور وفهم وتم تحويله إلى شيء آخر.. عند أكثر الذين وظفوه لأغراض أخرى.. ولم يدركوا ما معنى دور الجامع في الحياة العربية والإسلامية، إنه دور توعوي ونهضوي بامتياز.
(2)
أن منظومة الوعي الديني والثقافي والوطني ينبغي أن تشكل لحظة تلاقي ما بين الجامع والجامعة.. بين رمز المؤسسة الدينية في أرقى معانيها وأسماها وأجلها وبين رمز المؤسسة العلمية والتربوية في أعلى درجات سلمها التعليمي والعلمي، وهي الجامعة ومن هنا لا تتحقق هذه المنظومة التي تتأسس على تشكيل الوعي الاجتماعي إلا عبر الدور التنويري الذي ينبغي أن تنهض به الجامعة إضافة للدور الديني المستنير الذي ينبغي أن ينهض به الجامع.. من أجل الخروج إلى المجتمع ومن ثم المساهمة الحقيقية في إشاعة المعرفة التي بقدر ما ترتفع بمستوى الوعي والتفكير عند الناس وجعل قضايا المواطنة والحوار وقيم التسامح هي القضايا التي يتمحور حولها دور الجامعة بقدر ما يأتي دور الجامعة متمماً ومكملاً لدور الجامع الذي يتبدى منه ذلك الخطاب الديني الأكثر ارتباطاً بفقه الواقع والأكثر التصاقاً بما يدور ويمور في هذا الواقع، وأن يصبح هذا الخطاب متزامناً مع الأحداث لا متخلفاً عنها وأن يكون مسايراً لمجرياتها لا منفصلاً عن هموم المجتمع وهواجس الأمة.
(3)
إنها «ثنائية السماء والأرض» كما صاغها وعبر عنها المفكر الراحل زكي نجيب محمود في كتابه «تجديد الفكر العربي» وهي ثنائية كما يقول «قد تفتح آفاقاً مغلقة وتضع الإنسان على قدميه فوق الأرض وترفع رأسه إلى السماء أي أنها تتيح له أن يعيش لهما معاً فعلى الأرض يسعى علماً وعملاً وفي السماء يهتدي بالمُثل التي تُرسم أمامه لتكون له على الطريق أهدافاً وغايات».
هكذا إذن -وكما رأى زكي نجيب برؤيته الثاقبة ببصيرته لا ببصره هذه الثنائية التي يبدو الدين فيها هو المحرك من خلال علاقة هي في اتصال لا انفصال عبر خطاب ديني يرتفع بمستوى عقل الإنسان ويدعو إلى قيم العدالة والحرية والكرامة ويجعل بالتالي من الإنسان قيمة في مقابل قيم هذا الدين، لذلك فإن ثنائية الجامع والجامعة هي تعبير عن علاقة السماء بالأرض وترجمة رسالة الكلمة الطيبة المغسولة بضوء الإيمان وبذلك اليقين الناصع والساطع بقوة الحق وسلطة الحقيقة، ذلك اليقين الذي يرى في الكلمة نوراً يهدي وعقلاً يفكر ويسأل ولا يتلقى وهو في لهاث دائم عن الأجوبة التي تؤدي إلى ذلك اليقين، وعن أسرار الحياة وأسرار الكون وفهم ما جرى وما يجري. ذلك العقل المؤمن والخلاق معاً.
من الجامع والجامعة يمكن صياغة وعي حقيقي يقوم على التفكير الصحيح ومواجهة كل أشكال التطرف والغلو والجهل عبر خطاب يرتكز على العقلانية والانفتاح لا على محاربة الدولة والمجتمع والعالم وتحريم كل شيء.
a_faqehi@hotmail.com