في سابقة هي الأولى منذ إنشاء جامعة الدول العربية انعقد في ديسمبر عام 2002 المؤتمر الثقافي العربي الأول تحت رعاية الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى ، وشارك في أعمال المؤتمر الذي رفع شعار “ حوار الحضارات تواصل لا صراع “ العديد من ممثلي النخب الثقافية ، ومؤسسات المجتمع المدني ( غير الحكومية ) العربية ، وأتى ذلك الاجتماع غير العادي في سياق السعي لتحديد وصياغة رؤى وموقف ثقافي عربي مشترك إزاء ما يواجهه العرب والمسلمون عموما من تحديات مصيرية تهدد وجودهم ومستقبلهم في الصميم ، خصوصا في ضوء تداعيات أحداث 11سبتمبر المأساوية ، وما أحدثته من تبدلات وتطورات خطيرة ، شملت ميدان العلاقات الدولية بكل تجلياتها السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية والثقافية ، وحيث يجري على نطاق واسع تفكيك وإعادة صياغة وبناء لعلاقات القوة والسيطرة . للتحالفات والصراعات على المستويين العالمي والإقليمي بأبعادهما الجيوسياسية والجيوعسكرية ناهيك عن تداخل المصالح الاقتصادية القديمة منها والجديدة . والتي تمثلت في مبدأ الرئيس جورج بوش الابن وسياسات المحافظين الجدد الذين احكموا سيطرتهم على الإدارة الأمريكية ، و التي تمثلت في إستراتيجية الحروب الاستباقية والحرب المفتوحة على الإرهاب التي وضعت موضع التنفيذ ، كما يعود العامل أو البعد الأيديولوجي ( باعتباره تزيفا للواقع ) ليحتل موقعه بامتياز في اطارسعي الولايات المتحدة لاعطاء مظلة ومشروعية دولية للحشد العسكري الدولي تحت قيادتها لإسقاط نظام طالبان في أفغانستان ، ثم قيامها منفردة مع حليفتها التابعة (بريطانيا) لغزو واحتلال العراق واسقاط نظام صدام حسين. وقد تمثل البعد الإيديولوجي في التالي : إن التناقض الرئيسي في العالم بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفيتي، وتحقيق الانتصار النهائي لليبرالية الغربية انتقل وتموضع في إطار عالمي جديد للصراع ، يتمثل في تنافس وصدام الحضارات وفقا لصموئيل هنتجون وبرنارد لويس وغيرهما من أيديولوجيي الليبرالية الجديدة والمحافظين الجدد المهيمنين في عدد مهم من معاهد الابحاث و الدراسات الإستراتيجية ، والصحف الكبرى ، وعبر مراكز الضغط ( اللوبيات ) من المسيحيين/ الصهاينة الجدد ذات التأثير والنفوذ الواسع على صناع القرار في الإدارة الأمريكية ، ومجلسي الكونغرس ، والرأي العام الأمريكي , ومع إن هنتجون حدد 8 نماذج حضارية مرشحة للتنافس والصراع غير انه اعتبر إن شكل تجلي التناقض الرئيسي في هذه المرحلة التاريخية يتحدد بين الحضارة الغربية وما تمثله من خيارات ومنجزات وقيم ، وبين الحضارة الإسلامية التي تمثل النقيض على طول الخط لها . هذا الطرح الأيديولوجي الفاقع يدحض أطروحات غربية أخرى ( فوكوياما ) ترى بأن نهاية التاريخ قد اكتملت بالانتصار النهائي للرأسمالية ، وقوى السوق على المستوى العالمي رغم الإقرار بوجود أنماط هامشية ما قبل الرأسمالية في بعض البقاع الثانوية والمعزولة ، وهذا الانتصار أنهى وجود الايديولوجيا بوجه عام لصالح الليبرالية والبراجماتية ( النفعية ) الاقتصادية . وفي الواقع فأن البعد الإيديولوجي والاستقطاب العقائدي المشبع بالعدوانية وغطرسة القوة والهيمنة ( الامبريالية ) لم ينتف أو يضعف على الإطلاق في الخطاب الأمريكي ، بل تصاعد مع العولمة أو “الامركة” وفقا لنقادها ، ومناهضي تسلطها وسيطرتها المطلقة على مقدرات الشعوب والمجتمعات قاطبة . هذا الخطاب الإيديولوجي اتخذ أبعادا خطيرة بعد أحداث 11 سبتمبر الإرهابية لاقترانه بتنفيذ سياسة هجومية ذات أبعاد عسكرية ، أمنية ، سياسية ،وثقافية اختزلت هذه الايدولوجيا إلى مقولات صارخة ومباشرة مثل “ زلة اللسان “ التي تفوه بها الرئيس بوش حول “ الحرب الصليبية “ أو تساؤله “ لماذا يكرهوننا “؟ ويجيب “ لأنهم يكرهون حريتنا وثراءنا وقيمنا “ وضمن هذا السياق تقسيم الرئيس الأمريكي العالم إلى ابيض واسود ، وأن الصراع الاساسي هو بين معسكر الخير الذي تقوده الولايات المتحدة ، ومحور الشر الذي يضيق ويتسع وفقا للمصالح الأمريكية الثابتة ، والتي اختزلها جورج بوش في مقولة “ من ليس معنا في الحرب على الإرهاب فهو ضدنا “ . ومع إن الإدارة الأمريكية والحكومات الغربية حاولت التفريق بين الإرهاب من جهة والإسلام والمسلمين من جهة أخرى ، ودعت إلى احترام وحماية العرب والمسلمين المهاجرين في بلدانها ، غير إن مجمل التشريعات والقوانين الجديدة المقيدة للحريات المدنية تحت عنوان مكافحة الإرهاب ، والهجرة غير الشرعية كانت موجهة في المقام الأول ضد العرب والمسلمين ، ومنظماتهم وتجمعاتهم داخل الولايات المتحدة والدول الغربية وخارجها ، كما أخذت الأصوات والشعارات العنصرية التي تطالب بالانتقام ، والثأر من العرب والمسلمين تتزايد و تتصاعد من قبل القوى والتيارات اليمينية ، الفاشية ، والدينية المتطرفة التي دأبت على بث روح الكراهية والعداء للأجانب بدوافع سياسية ، اقتصادية ،اجتماعية ، أيدلوجية ، ثقافية ، وعنصرية ، ولا ننسى هنا الدور الذي مارسته تجمعات ومراكز التوجيه والتأثير الإعلامي والاقتصادي والسياسي اليمينية أو الواقعة تحت تأثير اللوبيات اليهودية والصهيونية في استغلال أحداث سبتمبر الإرهابية ، والنتائج السلبية و الخطيرة لتنامي وتصاعد وامتداد الإرهاب “ الإسلامي “ وجرائمه ليشمل المجتمعات العربية والإسلامية وعلى الصعيد العالمي على حد سواء لرسم صورة نمطية سوداء وكريهه عن العرب والمسلمين ، المتعطشين للدماء ، والمعادين بفطرتهم، ونمط مجتمعاتهم ،و تفكيرهم للحضارة الغربية وقيمها الحضارية والثقافية ، وتحميلهم وزر كل ما يعتمل ويمور في مجتمعات الغرب من تناقضات وأزمات ، مثل تفاقم البطالة ،الفقر ، تدني مستوى الأجور ، انتشار المخدرات والجريمة المنظمة ، وتصاعد وتيرة العنف والتطرف والإرهاب. وفي المقابل فإن قوى التطرف والتكفير من الجماعات الاسلامية المتشددة ، وممارساتها الإرهابية ، المتمترسة خلف شعارات إسلامية على غرار “ الحاكمية لله “ و “ الإسلام هو الحل “ وطرح مقولات “ الولاء والبراء” و “ دار الحرب ودار الإسلام “ و “ حربي الدفع و الطلب “ و “ حرب الفسطاطيين بين الكفر والإسلام “ بعد اقتطاعها من سياقاتها الشرعية والتاريخية ، أو تأويلها بصورة تعسفية خدمة لأغراضها واستهدافاتها (السياسية والأيدلوجية) المحلية والكونية . تلك الأطروحات والمواقف التي اخذت تحتل صدارة المشهد العالمي وما نجم عنها من ممارسات بشعة و تدمير و عنف دموي شرس و منفلت ، ضمن بيئة عربية تتسم بالركود والتخلف الاجتماعي ، والريع الاستهلاكي الاقتصادي ، والانحباس والاستبداد السياسي، والتكور والانغلاق الثقافي ، والضعف والتبعية للخارج ، ما اسهم في تظهير هذه الصورة القبيحة عن العرب والمسلمين ، والتي تشكل الوجه الآخر للعملة (الإيديولوجية) ذاتها . وهو ما أتاح لأيديولوجي عنصري مثل رئيس الوزراء الايطالي السابق بيرلسكوني القول إن الحضارة الإسلامية منحطة ، وإنها أدنى من الحضارة الغربية المتفوقة على مستوى الأخلاق والقيم (وعلى غرار جورج بوش الابن تنصل بيرلسكوني من تصريحاته أمام حدة الانتقادات الداخلية والخارجية) . السؤال الذي يطرح نفسه هنا : ماذا بوسع العرب والمسلمين أن يفعلوا لامتصاص الهجمة (المتعددة الأبعاد) الشرسة التي يتعرضون لها ، ومجابهة الاستحقاقات المصيرية الداخلية ، و التحديات الخارجية التي تواجههم ؟
وكيف يستطيع الخطاب والسؤال الثقافي العربي احتواء وامتصاص البعد الاديولوجي الحاد والأستئصالي للصراع المتبادل بين الأنا والأخر ، عبر تجسيد فكرة “ حوار الحضارات تواصل لا صراع “ الذي طرحه مؤتمر المثقفين العرب ، وبالتالي تأصيل جدل العلاقة ما بين الخصوصية والكونية؟. وهو موضوع المقال القادم.
وكيف يستطيع الخطاب والسؤال الثقافي العربي احتواء وامتصاص البعد الاديولوجي الحاد والأستئصالي للصراع المتبادل بين الأنا والأخر ، عبر تجسيد فكرة “ حوار الحضارات تواصل لا صراع “ الذي طرحه مؤتمر المثقفين العرب ، وبالتالي تأصيل جدل العلاقة ما بين الخصوصية والكونية؟. وهو موضوع المقال القادم.