-A +A
تركي العسيري
يبدو لي أن تيار الحداثة الأدبية الذي ساد خلال السبعينات وبداية الثمانينات قد خبا ضوؤه، وتفرق رواده تحت وابل الاتهامات الجاهزة وغير المنصفة التي تعرضوا لها من أناس أقل ما يوصفون به بأن لا شأن لهم بالأدب والثقافة، ولا يمثلون أية قيمة على خارطة الأدب المحلي، فخرج كتاب «الحداثة في نظر الإسلام» الذي يُقال إن صاحبه نقله حرفياً من شريط وزع أيامها في المساجد والأسواق والجامعات لأحد طلابه، وغيره من المنشورات والكتيبات.
هذه الفترة الزاهية في حياة «الحداثة الأدبية» في بلادنا والتي جاءت متأخرة كثيراً كتيار أدبي وفكري عن أوروبا تحديداً والتي كانت وقتها قد تجاوزت الحداثة إلى «ما بعد الحداثة»؛ وللإنصاف فإن تلك الحملة الظالمة التي تعرض لها «الحداثيون» في بلادنا جاءت من سوء الفهم، وسوء النية الذي طغى على مفهوم الحداثة كحالة إبداعية تدعو إلى التجديد في نسق العمل الأدبي من حيث جدّة الأفكار والصور والألفاظ بحيث نتجاوز قاموسنا اللغوي القديم إلى قاموس يتواءم مع العصر في لغته وأفكاره وتجلياته مع المحافظة على الثوابت الدينية والوطنية.. وللأسف فإن منسوبي هذا التيار ومنظريه لم يستطيعوا أن يُسوّقوا هذه المفاهيم والتي كانت كفيلة بصد سهام كثيرة أمطرتهم.. وتهم ظالمة أُلصقت ببعضهم.. عدا عن أن ذلك التيار لم يكن يملك رموزاً قادرة على التحدي والصمود ومقارعة الحجة بالحجة.. فالدكتور «الغذامي» والذي نجله ونعرف قدره لم يكن في تصوري الشخص المؤهل للذود عن حياظ التوجه الحداثي.. لطبيعته المسالمة الهادئة، وصديقنا الدكتور «سعيد السريحي» والذي تعرض لظلم غير مبرر آثر الهدوء والانزواء والبعد عن الشر!!

إنني أعتقد أن أصحاب المشاريع والمواقف الكبرى.. ودعاة التنوير والحداثة ينبغي أن يملكوا قدراً من التحدي وعدم الإذعان لحملات الغوغاء وأنصاف المثقفين وعديمي الموهبة، ورغم تعاطفي مع هذا التيار إلا أنني لم أنتسب إليه.. بيد أني كنت أدافع عنه عبر الصحف أو المنابر الأدبية وأذكر أنني عقبت في مداخلة على مسرح نادي أبها الأدبي على الأستاذ/ أحمد فرح العقيلان -غفر الله له- الذي كان وقتها مسؤولاً عن الأندية الأدبية من خلال محاضرة ألقاها في النادي متهما «الحداثة» بأنها فكر دخيل على مجتمعنا، ثم رددت على كتابه (جناية الشعر الحر) في مقال طويل نشر بجريدة «عكاظ» قبل ربع قرن بعنوان (أية جناية يا شيخ أحمد).. فقد كان رحمه الله -أو هكذا اعتقد- متحاملاً وانتقائياً في إيراد النصوص الشعرية الحديثة والاستشهاد بها كأدلة تدين ذلك التيار ويخيل إليّ أن الحملة الشرسة التي تعرض لها المشهد الحداثي وقتها والتي وصلت إلى حد التكفير والتفسيق والخروج على ثوابت الأمة قد ساهمت بشكل أو بآخر في انزواء رواد هذا التيار ومحبيه، ولم يستطع شعراؤه تحديداً تجاوز بعض النصوص الشعرية التي قدمتهم للساحة الأدبية، وأصبحت وبالاً على بعضهم كـ(تضاريس) الثبيتي، و«فضة» الصيخان، وبعض مقطوعات «العلي» و«الحربي»، و«خيمة القبيلة»، لصديق «التسكع» في شوارع جدة القديمة أيام الشباب الأستاذ/ أحمد عائل فقيهي، والذي أظن أن الصحافة و«رغيف الخبز» سرقته من فضاء الإبداع والتجلي!
ولعل أخي الشاعر «المثير للجدل» محمد زايد الألمعي، من أوائل من كتب القصيدة الحداثية في عسير والذي تعرض بسببها للكثير من الهجوم والظلم من بعض مدعي العلم وقتها، ولذا لم استغرب أن يزاح من رئاسة النادي الأدبي في أبها بهذه الطريقة التراجيدية فماضيه الحداثي، وحاضره التنويري، عوامل ساعدت على سقوطه السريع!
ترى هل جنت الحداثة على أبنائها؟
المنطق يقول إن رواد الحداثة وتلامذتها أصبحوا خارج المؤسسات الثقافية الفاعلة بحيث لم يستطيعوا الدفاع عن أنفسهم بالشكل المطلوب.
«محمد زايد» كما أرى أحد ضحايا الذاكرة الرديئة، والأفكار المسبقة التي أبت إلا أن تطل برأسها عند تسلمه رئاسة نادي أبها الأدبي.. كأنما استكثرت عليه المنصب، وهو كما أرى ليس وحده في المعاناة.. فذاكرة الناس -للأسف- تختزن دائماً الجوانب التي تراها مُعتمة في حياة المبدعين.. أما جوانب الضوء، والنور، والألق، فلا مكان لها في زوايا العتمة والسواد!!
تلفاكس 076221413