-A +A
زياد عيتاني- هشام عليوان (بيروت)
يعرف «ادمون رزق» نفسه بأنه عربي أصيل وليس طارئا ، فتعلقه بالعربية وعلومها قبل أن يكون رجل سياسة وحكم ناتج عن تأدبه وتتلمذه على يد كبار رجال الأدب والفكر في لبنان واطلاعه الواسع على علوم اللغة منذ الصغر ، وهو يرى اهتمام مسيحيي لبنان باللغة العربية أمرا طبيعيا فالمسيحيون تحدثوا العربية ومارسوها منذ القدم وكانت لغتهم قبل الإسلام الذي أعطى هذه اللغة قدسيتها وحافظ عليها .

وفي الحلقة الأولى من مذكراته التي رصدتها «عكاظ» يروي رزق طفولته ونشأته التي أنتجت منه لاحقا رجل الدولة حيث عرفه الناس في لبنان والوطن العربي، حزبيا عريقا، ونائبا عنيدا ووزيرا منضبطا. فهو شاهد عصر حصيف على كثير من الأحداث.

من هو إدمون رزق الإنسان؟

- ولدت في 11 مارس 1934 في بلدة جزين (جنوب لبنان) وقد استقرت العائلة في البلدة منتصف العقد الأخير من القرن السابع عشر (1696م) وتعاقب قبلي منها سبعة أجيال : رزق، وعبد الله، ورزق، ومخّول، وناصيف، وفارس، وأمين (والدي). والدتي نديمة سليم ناصيف، ولي أربعة أخوة شقيقان وشقيقتان. زوجتي رينيه، التقينا في الجامعة عام 1955، وتزوجنا بعد تخرجها 1959، ورزقنا الله خمسة صبيان وبنتاًً، أمين وبهجت ونديم وناجي وفادي وجمانة.

ما دور والدك في تشكيلك الأدبي؟

- لوالدي تأثير كبير في حياتي ككل والد، إن الآباء والأمهات هم الناقلون الطبيعيون لمعرفتهم وعاطفتهم إلى أبنائهم. والدي كان شاعراً وكاتباً وصحفياً ومعلقاً سياسياً، نشأت في كنفه وتأثرت به. منذ طفولتي خصني بتوجيه عفوي مستدام نحو العربية والعروبة، بما هي علاقة حضارية إنسانية وانتماء وتجذّر. لذلك يمكن القول إن أثره كان الأول والتأسيسي بالنسبة الى مسيرتي الأدبية والفكرية والوطنية.

وقد حظيت بأساتذة من كبار الأدباء واللغويين، منهم اثنان في مدرسة سيدة مشموشة (منطقة جزين) هما الأب نعمة الله حبيقة، ولقبه «الشاعر المجهول»، والأب اغناطيوس خشان، وهو أيضاً شاعر. وفي مدرسة الحكمة (بيروت) تتلمذت على يد حسيب عبد الساتر وعبده الشمالي، وكلاهما مرجع في علم النحو وأصول العربية. كما كان لنا أيضاً أستاذ مميز، لعله أبلغ من كتب في الأدب العربي، هو بطرس بستاني.

العرب لا يعرفون لغتهم

تعلقك باللغة العربية جاء عبر التراكم العائلي والمدرسي، أم أن هناك حادثة معينة جعلتك تحب هذه اللغة؟

- لا يمكن أن نعزل الاكتساب عن الولادة، الأشياء المكتسبة والأشياء المولودة تتكامل. لم تكن هناك حادثة معينة جعلتني اتجه نحو العربية، وإنما ثمة حالة عشنا فيها، وبيئة تربينا وترعرعنا فيها، وجذور راسخة في محيطنا وعائلتنا. لكن أهم عنصر من عناصر إتقان أي شيء، يبقى الرغبة فيه ومحبته. وهذا ما جعلني، ضمن محاضرة ألقيتها في عمان (ديسمبر 2002) أقول «إن معظم العرب، لا يعرفون لغتهم لأنهم لا يحبونها، وهم لا يحبونها لأنهم لا يعرفونها». فإذا عرف العربي لغته أحبها، وإذا أحبها عرفها، وأقول إن الثغرة الفاضحة في مجتمعنا العربي هي جهالة لغتنا، ما حداني لأن أقترح على مؤتمر عمان (عقد بالتعاون بين وزارة الثقافة الأردنية والمجمع الثقافي العربي) إنشاء «جمعيات لحماية اللغة العربية» وتأسيس اتحاد لهذه الجمعيات، على مستوى العالم العربي كله، والعمل على تبسيط القواعد العربية، أي وضع مختصرات وافية لضبط الإيقاع اللغوي، كذلك إنتاج برامج لنشر اللغة، وتصويب الأخطاء الشائعة، وإقامـة مواقع على الإنترنت للاستشارات اللغوية، ولتبادل المعلومات حول القواعد، والتحاور من اجل تبسيطها. ان أحد مصادر ألمي الشخصي، هو ما أراه من انتهاك للغة العربية، وتنكيل بها، خصوصاً على أيدي من هم في واجهة المسؤوليات، ومن يفترض فيهم أن يكونوا قدوة لسواهم في معرفة العربية. وقد ذهب بي التفاؤل إلى حد طلب «رفض ولاية غير المثقف» وإخضاع من هم في السلطة إلى «دورات تدريبية» تثقيفية استلحاقية، على الأقل من اجل إزالة الالتباس الذي يستولي على تلامذة الصفوف الابتدائية، عندما يرون، على الشاشة الصغيرة، مسؤولين كباراً يتلون بيانات أو مقررات أو خطباً، مليئة بالأخطاء، فيحارون في من يصدقون : أبطال الشاشة الصغيرة، أم معلم الصفوف الابتدائية، وموجز الصرف والنحو ؟

ذكرت بطرس البستاني، كيف تصف هذا الرجل في عصره؟

- عرفت بطرس البستاني الثاني وليس الأول المعروف بلقب «المعلّم»، ذاك الذي وضع دائرة المعارف الأولى في القرن التاسع عشر، فيما الثاني الّف كتب «الأدب العربي»، في العصر الجاهلي وصدر الإسلام، والعصر الأموي، والعصر العباسي. بطرس البستاني الذي عرفته كان أديباً ذا عبارة متوهّجة، يكتب باسلوب جمالي، متضلعاً من التراث والأدب العربيين، وهكذا أتت كتبه التي درست فيها، ولم يُـتح لي أن أتتلمذ على يده مباشرة، لأنه كان يعطي صف البكالوريا في مدرسة الحكمة، وأنا كنت «مستعجلاً»، فعندما أنهيت صف البيان، وبدلاً من أن أنتظر سنة لكي أصل إلى صف الانتهاء، أي البكالوريا الجزء الثاني، حضّرت في فصل الصيف، شهادة البكالوريا الجزء الأول، وتقدمت في الدورة الثانية ونجحت، ولم أستطع أن أتابع صف البكالوريا عند بطرس البستاني، وهذا كان حرماناً كبيراً، ولكنني كنت أعرفه، وكنت ألقاه وقد درست في كتبه، واعتبره المرجع الأنقى والأصفى للأدب العربي، بأعصره المختلفة، بما فيها الأندلسي.

وبالطبع هناك أستاذٌ آخر بلغ شأوا في هذا الباب، هو فؤاد افرام البستاني، الذي لم يكن من أساتذة مدرسة الحكمة في حينه، وإنما من أساتذة «اليسوعية»، وقد عاد لإصدار دائرة المعارف بصياغة وتبويب وحلة جديدة، حيث أن «المعلم» بطرس البستاني الكبير لم ينه اجزاء دائرة المعارف كلها... وكذلك لم يتمكن فؤاد البستاني من انجازها... وعسى ان يفعل بنوه.

الأديرة والتراث

الملاحظ أن أساتذتك في اللغة العربية كانوا في معظمهم رجال دين مسيحيين، فما علاقة مسيحيي الشرق باللغة العربية وتالياً بالقومية العربية؟

- اللغة العربية هي لغة النصرانية قبل الإسلام، ومن ثم جاء التـنـزيل «القرآن الكريم»، فأعطاها هالة من القدسية، وأعتقد انه في أوائل الإسلام كان هناك نوع من الألفة، لا بل الانفتاح والقربى، بين المسيحية والإسلام، بمعنى أنه لم تكن ثمة مواجهة، فالمسيحيون، أو النصارى، كانوا في جوار حسن، لا بل في أخوّة مع الإسلام. لم تأتِ الدعوة الإسلامية مواجهة للنصرانية، وكان من المسلم به أن النصرانية اعتمدت العربية لغتها، وعندما كان المسيحي يكتب أو يستعمل العربية، فهو ليس مستعرباً، بل من العرب العاربة، والمسيحيون ليسوا شعوبيين، ولم يكونوا قط شعوبيين، في تاريخ الإسلام، والدليل أن التراث الشعري والأدبي والفكري مستمر منذ الجاهلية، فكم شاعر نصراني، وكم قِسٍّ خطيب، وراهب اديب، وبطريرك، في الجزيرة العربية، والبادية، للمسلمين أخٌ ونسيب !

أما مسألة الشغف الذي عرف به رجال الدين المسيحيون تجاه اللغة العربية، فهو أمر طبيعي، بعيداً عن أي تشكيك يمكن أن يؤدي إلى تفرقة. بل إن رجال الدين المسيحيين كانوا مؤتمنين على التراث. كانت مكتبات الأديرة تحفظ التراث في خزائنها، منذ القديم وكان الرهبان يهتمون بالطب والعلوم، بالاضافة الى التعاطي مع الشعوب والحضارات الأخرى، خصوصاً اليونانية ثم الفارسية، وترجمة معارفها.

التجذر في العربية استمر، وكما يتناقل الآباء، فإن محفوظات وثروات وكنوزاً فكرية وأدبية حفظت في الجوامع والمناسك والأديرة. بالإضافة إلى هذه الأصالة العربية للمسيحيين، طرأ عامل جعلهم يتمسكون أكثر بجذورهم العربية، وهو الحكم التركي الذي عمل على تغيير اللغة.

وكان التتريك السياسة الرائجة في العهد العثماني. يومها قام الرهبان، في الأديرة والصوامع، بحفظ القرآن الكريم، وكان ثمة ابتداع مسيحي أفاد العربية، وساعد على حفظها، وهو كتابتها بالحرف السرياني، وهذا ما يُعرف «بالكرشونية» ولا يزال معتمداً ضمن القداس الماروني.

القرآن الكريم حفظ في الأديرة، كذلك اللغة العربية وأصولها ومبادئها وتراثها. من هنا كان الدور البارز لرجال الدين النصارى في خدمة اللغة العربية.

ثم جاءت مدرسة عين ورقة (غوسطا- كسروان) التي أنشأها مطران من آل اسطفان، ثم تولى رئاستها لمدة 46 سنة المطران يوسف رزق الجزيني (1780- 1865) وقد كان لهذه المدرسة فضل أساسي على النهضة العربية، ومن تلامذتها، مثلاً، المعلم بطرس البستانـي، وأحمد فـارس الشدياق، والعديد مـن البطاركة والمطارنة، وتلاقت هذه المدرسة المارونية الإكليريكية مع مصر التي كانت بمنأى عن الضغط التركي المباشر، حيث يلتمس العرب فسحة للحرية، وممارسة طقوسها، لاسيما الكتابة والتأليف والنشر. وهذا ما جعل كثيراً من اللبنانيين ينتقلون إلى وادي النيل، ويؤسسون الصحف، مثل «دار الهلال» و«الأهرام» و«المؤيد» و«القاهرة»، ولم يكن هناك أي شعور إقليمي، مما شهدناه لاحقاً عندما برز نوع من الإصرار على إلغاء الخصوصيات التي تتمسك بها كل جماعة، تحت شعار «الانصهار والدمج». ان الانصهار يعني إذابة المادة، وتغييرها، وإدخال عناصر فيها، أو سحب أشياء منها، بينما المطلوب هو التكامل، ولا يجوز أن نخشى التعدّد.

المطران يتعلم الفقه الاسلامي

من تلامذة عين ورقة المطران يوسف الدبس، وكان المركز الأساسي لمطرانية الموارنة في بيروت خارج العاصمة، في الجبل (عين سعادة) وأول مطران تولاها المطران طوبيا عون، والثاني بطرس شبلي الذي نفاه العثمانيون ومات في الاناضول. ولكن، عندما أصبح يوسف الدبس مطراناً على أبرشية بيروت، قرر نقل مقره من الجبل إلى بيروت، فباع أملاكاً للأبرشية في مدينة عالية، واشترى أرضاً في الأشرفية (بيروت) وبنى عليها مدرسة هي مدرسة «الحكمة»، كما بنى كنيسة في قلب بيروت، بجوار المساجد، دلالة على هذا التآخي الإسلامي المسيحي وكنا يومذاك تحت النير العثماني وكانت بيروت ولاية وبنيت الكنيسة على اسم القديس جريس او جاورجيوس، وهو نفسه «الخضر» عند المسلمين، مما يدلّ على التقارب في التوجهات بين المؤمنين.

وقد أخذ المطران رخصة بتعليم الفقه الإسلامي، في مدرسة الحكمة، على ايدي مشايخ مسلمين واساتذة مسيحيين، فكانت هي المدرسة الثانية للفقه الإسلامي على امتداد العالم العربي، بعد الأزهر. هذا يعني أنه ليس في لبنان، تصادم اديان، ولا يجوز ان يكون. حتى الإرشاد الرسولي (البابوي) يؤكد أن صيغة العيش المشترك اللبنانية، صيغة الانفتاح وقبول الآخر، والتكامل معه، هي الوحيدة القادرة أن تنقذ الإنسانية من صراع الحضارات.