انطلقنا من المحطة باتجاه الخرخير.. وها نحن اخيرا نسير على
«الردمية» التي طالما توعدنا بها «صادق المنهالي».. والتي اصر على ان نصلها في المساء. انتهينا من الطريق الاسفلتي (220) كيلومترا.. وبدأت رحلة الشقاء الطويلة. (380) كيلومترا هي المسافة المتبقية للوصول الى الخرخير.قلت في نفسي: «هذه هي (الردمية) إذا؟! يبدو ان هذا المساء سيكون أطول مما توقعنا جميعا».
كانت «الردمية» عبارة عن طريق من التراب والحجارة المدكوكة المعبدة أحيانا.. والوعرة في كثير من الاحيان.. ترتفع مع الكثبان الرملية وتنخفض معها.. وتتفرع أحيانا في أماكن لم تعد صالحة للسير عليها لوعورتها الشديدة.. فتضطر الى السير على الرمال.. وهذا من أصعب ما يمكن ان تواجهه في الصحراء.. لأن آثار عجلات السيارات تتفرع كثيرا وتضلل كثيرا حتى أنك لاتعرف أيها تتبع.. والخطر الكامن في ذلك أنك ربما تفاجأ بعد دقائق قليلة أنك تائه في الصحراء وقد اتبعت الأثر الخطأ.. ولاتعرف إن رجعت هل ستسلك الطريق الصحيح وتتبع الأثر الصحيح للعودة الى «الردمية» أم أنك ستستمر في التوهان في كثبان الرمال التي يشبه كل شيء فيها كل شيء.. ولايمكن لك ان تفلح في تحديد الاتجاه الصحيح ما لم تكن عارفا بالصحراء جيدا. وهو ما وقعنا فيه أكثر من مرة.. ولكني كنت متشددا في التوقف سريعا بمجرد الشعور بأننا انحرفنا عن المسار «الردمية».
المسار
«المسار».. هو الإسم الذي يطلقه رجال حرس الحدود على الردمية أو الطريق الواصل بين نهاية الاسفلت والخرخير، والبالغ طوله 380 كيلومترا.ويجري العمل فيه ليلا ونهارا، وأكثر ما يوجد على الردمية هي شاحنات وجرافات الشركة المنفذة لمشروع الطريق.
على جانب الردمية تمر بك عدة مناطق تم انجاز الاسفلت فيها، ولكن الشركة وضعت في مناطق متقطعة من الاسفلت حواجز ترابية مرتفعة لمنع المرور على الاسفلت حتى يتم الانتهاء منه تماما، ولكن على أطراف هذه الحواجز توجد اختراقات عديدة، فالمسافرون على هذا الطريق المهلك يبحثون عن قليل من الراحة على هذا الاسفلت المتقطع.لاتوجد على الردمية محطات أو بقالات أو أي شيء يمكن ان تلجأ إليه في حالة الطواريء، فقط الطريق ولاشيء أخر عدا اللوحات الصغيرة التي كتب عليها المسافة. ولكن ليس المسافة المتبقية لك على بلوغ الخرخير، وإنما العكس تماما فكلما تقدمت 10 كيلومترات تجد لوحة تخبرك كم قطعت حتى الان من شرورة مما اربكنا كثيرا حتى أنني قلت للسائق «يبدو اننا نمشي ريويس». ولايمكن لكم ان تتخيلوا كم لهذه الارقام من تأثير نفسي سلبي يضاعف من وحشة الطريق، وكأنها تزداد طولا مع كل لوحة مسافة. حاولنا كثيرا ان نفسر السبب وراء كتابتها بهذه الطريقة العكسية، ولم نفلح في أن نصل الى هدف العبقري الذي قرر كتابتها بهذه الطريقة.. ولكن يبدو اننا في الربع الخالي دخلنا الى عالم اللامألوف في كل شيء.
السر الغريب
فجأة خطر ببالي سؤال لصادق: لماذا كنت تصر دائما على أن لانسافر على «الردمية» إلا ليلا، وأن السفر في النهار لايصلح؟! ألم يكن أفضل أن نسافر عبر هذه المقطعة الوعرة في النهار؟!
وكعادة «صادق» بدأ إجابته: بـ«هاه».. هذا سر الردمية الكبير.. فالسفر على الردمية نهارا يمكن أن يقتلك، ولكنه آمن في الليل!
قلت له: كيف؟!
قال: تلاحظون أن الارتفاع والهبوط كثير جدا طول الردمية من بدايتها وصولا الى الخرخير.. وهذه الارتفاعات هي الخطر بعينه.. فكثيرا ما تحدث حوادث تصادم مواجهة بين سيارات المسافرين على الطريق وسيارات حرس الحدود التي تسير على الطريق بسرعة عادة.. وقد ذهب ضحية هذه الحوادث كثيرون ماتوا في الحال أو اثناء نقلهم عبر هذه الطريق الوعرة لمسافة طويلة الى شرورة حيث اقرب مستشفى. والسبب في هذه الحوادث ان هذه المرتفعات تحجب الرؤية، فلا يرى المسافر على جهة القادم من الجهة الاخرى فيحدث التصادم وجها لوجه على قمة المرتفعات.
ويضيف صادق: أما في الليل.. فأنوار السيارات كفيلة بتنبيه المسافر على الطريق عن القادم من الجهة المقابلة، ولذلك فإن طريق الخرخير تعارف عليها لدى جميع سكان الربع الخالي بأنها آمنة بالليل.. قاتلة بالنهار.
ويشرح صادق المنهالي سببا آخر لتفضيل السفر الى الخرخير ليلا.. وهو سبب قديم يتجدد في ثقافة البدو وأبناء الصحراء على وجه الخصوص، قال تعالى: «وبالنجم هم يهتدون».. النجوم.. بوصلة البدو ودليلهم في الصحراء.. ولذلك يقول «صادق»: ببساطة.. اذا اردت ان تصل الى الخرخير بدون ان تتوه في الصحراء.. ما عليك الا ان تستمر في مراقبة ذلك النجم الاصغر في السماء والابقاء عليه في محيط زجاج السيارة الامامي طيلة الطريق «ولا عليك خلاف واصل الخرخير إن شاء الله».. وهو ما حدث بالفعل.
سفر بلا حقائب
مرت الرحلة بأمان على هذا الطريق طيلة فترة سفرنا الى الخرخير رغم التعب والمشقة ويقين الزميل غازي عسيري بأننا لن نصل وأنه لايوجد في نهاية هذا الطريق شيء اسمه الخرخير، ولم ينغص علي اثناء رحلة الذهاب سوى شيء بسيط جدا «لقد نسي الشباب نقل حقائبي جميعها من السيارة التي تركناها في شرورة بينما نقلوا جميع حقائبهم!!».
اكتشفنا ذلك قبل أن نصل الى الخرخير بـ 150 كيلومترا.. اكتفيت بالصمت، بل ألجمت ولم أنبس ببنت شفه.. وقلت بعد ان شعرت بقرصة الجوع «ماهي أعز من العشاء».. وواصلنا الطريق.
مواجهة الموت
لم تكن الردمية بعد كل ما سمعناه عنها لتتركنا نمر بسلام دون ان تثبت لنا هيبتها وجبروتها لتحافظ على سمعة الرعب التي يخشاها الجميع.. ولكنها انتظرتنا واجلت كل مشاريع الرعب لرحلة العودة. لم يتمكن صادق من العودة بنا الى شرورة.. فقررنا بعد انتهاء مهمتنا في الخرخير وما بعدها «والتي سنتطرق لها في الحلقات القادمة».. ان نعود الى شرورة عبر الردمية، وهي الطريق الوحيدة بالطبع، وتولى الزميل أحمد دنقوه القيادة.كنا نتوقع اننا قد نتوه وسأمارس نفس الصرامة في العودة الى المسار.. ولكن لم أكن اتوقع بأننا قد نكون في مواجهة حقيقية مع الموت وجها لوجه وبدون اي وساطات.. ليس مرة واحدة، بل مرتين.
المرة الأولى عندما قررنا في احدى المناطق شديدة الوعورة «بشيء من الشقاوة» ان نرتاح قليلا من اهتزازات السيارة على الردمية والمطبات التي لم نعد نفكر فيها كثيرا ولا نحصي عددها، خاصة وأن المسافة الطويلة تضطرك الى السرعة قليلا أو كثيرا احيانا لتصل الى وجهة تشعر طيلة الطريق انها لن تأتي ابدا.. فقررنا ان نبحث عن الراحة فانحرفنا قليلا عن المسار «الردمية» الى منطقة جانبية مسفلتة، ولكن عليها حواجز رملية عديدة «التي اخبرتكم سابقا عنها».. وما هي إلا دقائق حتى اعتلت «كفرات» السيارة أحد هذه الحواجز رغم حذرنا الشديد ان نقترب من طرفها المنخفض، فمالت السيارة على جنبها الايمن ميلا شديدا، ولا أدري لماذا لم تنقلب بتلك السرعة والميل الشديد للسيارة والمنطقة التي مالت عليها لولا لطف الله عز وجل، ثم براعة الزميل أحمد بن دنقوه في القيادة «ليس على مسؤوليتي».. ونجانا الله من الموت بأعجوبة.
أما المرة الثانية التي واجهنا الموت فيها فكانت رغم أننا قررنا أن نلتزم بالردمية ولا نحيد عنها.. ولكن الصحراء تفرض شروطها دائما ولاتترك لك الخيارات في كل الأحوال.وفي منطقة تدعى «أم الملح» واجهنا فجأة مركز سلاح الحدود، وهو مجمع حديث، بدأت اثار السيارات تتفرع امامنا، فقرر السائق بسرعة اتباع أحدها ظنا منه أنها جميعا ستؤدي الى نقطة التقاء واحدة. ولكن كان للصحراء رأي اخر، فما هي الا دقائق معدودة، حتى غاصت عجلات السيارة في الرمال بشدة. وما هي إلا لحظات نزلت من السيارة الى الخارج لاعاين الوضع، وركبت مكان السائق واخرجت رأسي لاراقب دوران العجلات الخلفية، وبمجرد ان رفعت رأسي حتى اصطدمت بجسم صلب، تراجعت بسرعة للوراء، وفوجئت بفوهة رشاش مصوبة نحو رأسي، بيد شاب طويل يرتدي ثوبا أبيض وعمامة يبدو أنه يتدرب «كمال أجسام» جيدا.
قال لي: من أنت؟
عرفته بنفسي.. فقال: «إيش عندك هنا»؟ قلت له: تائهون!.
قال: «هذا اللي جنبك ولد بن دنقوه؟».
قلت له: نعم.
فقال: والله لولا أنني عرفته لأطلقت النار عليكم، أنتم الان خارج المسار.
فقلت له: نحن أغراب عن المنطقة، والضياع في هذه الصحراء أمر طبيعي.
وما هي إلا لحظات حتى حظر جيب حرس الحدود، وقال: لابد من أن ترافقونا الى المركز، وتولى هو قيادة سيارتنا وألقى القبض علينا، واقتادونا الى المركز.. واخذوا اثباتاتنا وقاموا بإجراء بعض اللازم لإنهاء البلاغ.
توضأنا وأدينا صلاة المغرب والعشاء جماعة، وطلب مدير المركز المقدم سعد الصاعدي (من أبناء مكة المكرمة)، وهو شخصية هادئة متزنة.. لبق الحديث.. لايوجد شبه كبير بينه وبين الرعب الذي عشناه قبل لحظات. استضافنا، وزودونا بالوقود، واخبرنا ان الانحراف عن المسار أمر بالغ الخطورة، ولابد من الشدة في التعامل مع من يتم القبض عليهم خارج المسار، فهناك متسللون ومهربون يقبض عليهم دائما خارج مسار الحدود هذا.
وفوجئنا عندما علمنا انه تم القبض علينا «مغرزين فوق طعس يمني شقيق».. ولهذا كان الشاب الطويل مستعدا لاطلاق النار علي.. وعرفت بمجرد النظر في عينيه ان حدودنا بخير وفي أيد أمينه ولله الحمد على كل شيء.
«الردمية» التي طالما توعدنا بها «صادق المنهالي».. والتي اصر على ان نصلها في المساء. انتهينا من الطريق الاسفلتي (220) كيلومترا.. وبدأت رحلة الشقاء الطويلة. (380) كيلومترا هي المسافة المتبقية للوصول الى الخرخير.قلت في نفسي: «هذه هي (الردمية) إذا؟! يبدو ان هذا المساء سيكون أطول مما توقعنا جميعا».
كانت «الردمية» عبارة عن طريق من التراب والحجارة المدكوكة المعبدة أحيانا.. والوعرة في كثير من الاحيان.. ترتفع مع الكثبان الرملية وتنخفض معها.. وتتفرع أحيانا في أماكن لم تعد صالحة للسير عليها لوعورتها الشديدة.. فتضطر الى السير على الرمال.. وهذا من أصعب ما يمكن ان تواجهه في الصحراء.. لأن آثار عجلات السيارات تتفرع كثيرا وتضلل كثيرا حتى أنك لاتعرف أيها تتبع.. والخطر الكامن في ذلك أنك ربما تفاجأ بعد دقائق قليلة أنك تائه في الصحراء وقد اتبعت الأثر الخطأ.. ولاتعرف إن رجعت هل ستسلك الطريق الصحيح وتتبع الأثر الصحيح للعودة الى «الردمية» أم أنك ستستمر في التوهان في كثبان الرمال التي يشبه كل شيء فيها كل شيء.. ولايمكن لك ان تفلح في تحديد الاتجاه الصحيح ما لم تكن عارفا بالصحراء جيدا. وهو ما وقعنا فيه أكثر من مرة.. ولكني كنت متشددا في التوقف سريعا بمجرد الشعور بأننا انحرفنا عن المسار «الردمية».
المسار
«المسار».. هو الإسم الذي يطلقه رجال حرس الحدود على الردمية أو الطريق الواصل بين نهاية الاسفلت والخرخير، والبالغ طوله 380 كيلومترا.ويجري العمل فيه ليلا ونهارا، وأكثر ما يوجد على الردمية هي شاحنات وجرافات الشركة المنفذة لمشروع الطريق.
على جانب الردمية تمر بك عدة مناطق تم انجاز الاسفلت فيها، ولكن الشركة وضعت في مناطق متقطعة من الاسفلت حواجز ترابية مرتفعة لمنع المرور على الاسفلت حتى يتم الانتهاء منه تماما، ولكن على أطراف هذه الحواجز توجد اختراقات عديدة، فالمسافرون على هذا الطريق المهلك يبحثون عن قليل من الراحة على هذا الاسفلت المتقطع.لاتوجد على الردمية محطات أو بقالات أو أي شيء يمكن ان تلجأ إليه في حالة الطواريء، فقط الطريق ولاشيء أخر عدا اللوحات الصغيرة التي كتب عليها المسافة. ولكن ليس المسافة المتبقية لك على بلوغ الخرخير، وإنما العكس تماما فكلما تقدمت 10 كيلومترات تجد لوحة تخبرك كم قطعت حتى الان من شرورة مما اربكنا كثيرا حتى أنني قلت للسائق «يبدو اننا نمشي ريويس». ولايمكن لكم ان تتخيلوا كم لهذه الارقام من تأثير نفسي سلبي يضاعف من وحشة الطريق، وكأنها تزداد طولا مع كل لوحة مسافة. حاولنا كثيرا ان نفسر السبب وراء كتابتها بهذه الطريقة العكسية، ولم نفلح في أن نصل الى هدف العبقري الذي قرر كتابتها بهذه الطريقة.. ولكن يبدو اننا في الربع الخالي دخلنا الى عالم اللامألوف في كل شيء.
السر الغريب
فجأة خطر ببالي سؤال لصادق: لماذا كنت تصر دائما على أن لانسافر على «الردمية» إلا ليلا، وأن السفر في النهار لايصلح؟! ألم يكن أفضل أن نسافر عبر هذه المقطعة الوعرة في النهار؟!
وكعادة «صادق» بدأ إجابته: بـ«هاه».. هذا سر الردمية الكبير.. فالسفر على الردمية نهارا يمكن أن يقتلك، ولكنه آمن في الليل!
قلت له: كيف؟!
قال: تلاحظون أن الارتفاع والهبوط كثير جدا طول الردمية من بدايتها وصولا الى الخرخير.. وهذه الارتفاعات هي الخطر بعينه.. فكثيرا ما تحدث حوادث تصادم مواجهة بين سيارات المسافرين على الطريق وسيارات حرس الحدود التي تسير على الطريق بسرعة عادة.. وقد ذهب ضحية هذه الحوادث كثيرون ماتوا في الحال أو اثناء نقلهم عبر هذه الطريق الوعرة لمسافة طويلة الى شرورة حيث اقرب مستشفى. والسبب في هذه الحوادث ان هذه المرتفعات تحجب الرؤية، فلا يرى المسافر على جهة القادم من الجهة الاخرى فيحدث التصادم وجها لوجه على قمة المرتفعات.
ويضيف صادق: أما في الليل.. فأنوار السيارات كفيلة بتنبيه المسافر على الطريق عن القادم من الجهة المقابلة، ولذلك فإن طريق الخرخير تعارف عليها لدى جميع سكان الربع الخالي بأنها آمنة بالليل.. قاتلة بالنهار.
ويشرح صادق المنهالي سببا آخر لتفضيل السفر الى الخرخير ليلا.. وهو سبب قديم يتجدد في ثقافة البدو وأبناء الصحراء على وجه الخصوص، قال تعالى: «وبالنجم هم يهتدون».. النجوم.. بوصلة البدو ودليلهم في الصحراء.. ولذلك يقول «صادق»: ببساطة.. اذا اردت ان تصل الى الخرخير بدون ان تتوه في الصحراء.. ما عليك الا ان تستمر في مراقبة ذلك النجم الاصغر في السماء والابقاء عليه في محيط زجاج السيارة الامامي طيلة الطريق «ولا عليك خلاف واصل الخرخير إن شاء الله».. وهو ما حدث بالفعل.
سفر بلا حقائب
مرت الرحلة بأمان على هذا الطريق طيلة فترة سفرنا الى الخرخير رغم التعب والمشقة ويقين الزميل غازي عسيري بأننا لن نصل وأنه لايوجد في نهاية هذا الطريق شيء اسمه الخرخير، ولم ينغص علي اثناء رحلة الذهاب سوى شيء بسيط جدا «لقد نسي الشباب نقل حقائبي جميعها من السيارة التي تركناها في شرورة بينما نقلوا جميع حقائبهم!!».
اكتشفنا ذلك قبل أن نصل الى الخرخير بـ 150 كيلومترا.. اكتفيت بالصمت، بل ألجمت ولم أنبس ببنت شفه.. وقلت بعد ان شعرت بقرصة الجوع «ماهي أعز من العشاء».. وواصلنا الطريق.
مواجهة الموت
لم تكن الردمية بعد كل ما سمعناه عنها لتتركنا نمر بسلام دون ان تثبت لنا هيبتها وجبروتها لتحافظ على سمعة الرعب التي يخشاها الجميع.. ولكنها انتظرتنا واجلت كل مشاريع الرعب لرحلة العودة. لم يتمكن صادق من العودة بنا الى شرورة.. فقررنا بعد انتهاء مهمتنا في الخرخير وما بعدها «والتي سنتطرق لها في الحلقات القادمة».. ان نعود الى شرورة عبر الردمية، وهي الطريق الوحيدة بالطبع، وتولى الزميل أحمد دنقوه القيادة.كنا نتوقع اننا قد نتوه وسأمارس نفس الصرامة في العودة الى المسار.. ولكن لم أكن اتوقع بأننا قد نكون في مواجهة حقيقية مع الموت وجها لوجه وبدون اي وساطات.. ليس مرة واحدة، بل مرتين.
المرة الأولى عندما قررنا في احدى المناطق شديدة الوعورة «بشيء من الشقاوة» ان نرتاح قليلا من اهتزازات السيارة على الردمية والمطبات التي لم نعد نفكر فيها كثيرا ولا نحصي عددها، خاصة وأن المسافة الطويلة تضطرك الى السرعة قليلا أو كثيرا احيانا لتصل الى وجهة تشعر طيلة الطريق انها لن تأتي ابدا.. فقررنا ان نبحث عن الراحة فانحرفنا قليلا عن المسار «الردمية» الى منطقة جانبية مسفلتة، ولكن عليها حواجز رملية عديدة «التي اخبرتكم سابقا عنها».. وما هي إلا دقائق حتى اعتلت «كفرات» السيارة أحد هذه الحواجز رغم حذرنا الشديد ان نقترب من طرفها المنخفض، فمالت السيارة على جنبها الايمن ميلا شديدا، ولا أدري لماذا لم تنقلب بتلك السرعة والميل الشديد للسيارة والمنطقة التي مالت عليها لولا لطف الله عز وجل، ثم براعة الزميل أحمد بن دنقوه في القيادة «ليس على مسؤوليتي».. ونجانا الله من الموت بأعجوبة.
أما المرة الثانية التي واجهنا الموت فيها فكانت رغم أننا قررنا أن نلتزم بالردمية ولا نحيد عنها.. ولكن الصحراء تفرض شروطها دائما ولاتترك لك الخيارات في كل الأحوال.وفي منطقة تدعى «أم الملح» واجهنا فجأة مركز سلاح الحدود، وهو مجمع حديث، بدأت اثار السيارات تتفرع امامنا، فقرر السائق بسرعة اتباع أحدها ظنا منه أنها جميعا ستؤدي الى نقطة التقاء واحدة. ولكن كان للصحراء رأي اخر، فما هي الا دقائق معدودة، حتى غاصت عجلات السيارة في الرمال بشدة. وما هي إلا لحظات نزلت من السيارة الى الخارج لاعاين الوضع، وركبت مكان السائق واخرجت رأسي لاراقب دوران العجلات الخلفية، وبمجرد ان رفعت رأسي حتى اصطدمت بجسم صلب، تراجعت بسرعة للوراء، وفوجئت بفوهة رشاش مصوبة نحو رأسي، بيد شاب طويل يرتدي ثوبا أبيض وعمامة يبدو أنه يتدرب «كمال أجسام» جيدا.
قال لي: من أنت؟
عرفته بنفسي.. فقال: «إيش عندك هنا»؟ قلت له: تائهون!.
قال: «هذا اللي جنبك ولد بن دنقوه؟».
قلت له: نعم.
فقال: والله لولا أنني عرفته لأطلقت النار عليكم، أنتم الان خارج المسار.
فقلت له: نحن أغراب عن المنطقة، والضياع في هذه الصحراء أمر طبيعي.
وما هي إلا لحظات حتى حظر جيب حرس الحدود، وقال: لابد من أن ترافقونا الى المركز، وتولى هو قيادة سيارتنا وألقى القبض علينا، واقتادونا الى المركز.. واخذوا اثباتاتنا وقاموا بإجراء بعض اللازم لإنهاء البلاغ.
توضأنا وأدينا صلاة المغرب والعشاء جماعة، وطلب مدير المركز المقدم سعد الصاعدي (من أبناء مكة المكرمة)، وهو شخصية هادئة متزنة.. لبق الحديث.. لايوجد شبه كبير بينه وبين الرعب الذي عشناه قبل لحظات. استضافنا، وزودونا بالوقود، واخبرنا ان الانحراف عن المسار أمر بالغ الخطورة، ولابد من الشدة في التعامل مع من يتم القبض عليهم خارج المسار، فهناك متسللون ومهربون يقبض عليهم دائما خارج مسار الحدود هذا.
وفوجئنا عندما علمنا انه تم القبض علينا «مغرزين فوق طعس يمني شقيق».. ولهذا كان الشاب الطويل مستعدا لاطلاق النار علي.. وعرفت بمجرد النظر في عينيه ان حدودنا بخير وفي أيد أمينه ولله الحمد على كل شيء.