-A +A
تركي العسيري
ذكّرني الاستطلاع الرائع الذي نشره «ملحق الأربعاء» الذي يشرف عليه صديقنا القاص/ محمد المنقري في وقت مضى عن بيع «الشهادات العليا» من خلال مكاتب و«دكاكين» منتشرة في بعض العواصم، بفكرة موضوع كنت أنوي الكتابة عنه يتعلق بحملة «الدكتوراه» المزورة، أو شبه المزورة التي تمنحها تلك المكاتب وتروج لها؛ وأزعم أننا كمجتمع قد ساهمنا بشكل أو بآخر في تدافع المئات من مواطنينا ومنهم من تجاوز السبعين لنيل تلك الشهادات ظناً منهم بأنها ستضيف إليهم قيمة اجتماعية معينة.. فنحن للأسف أسرى الشهادات، والتي باتت وحدها الطريق الموصل إلى الهدف الذي يرتجيه صاحبها. وهذه في ظني خاصية المجتمعات النامية.. التي تؤمن بأن الحصول على الشهادات الورقية لا الكفاءة والثقافة والعلم هي الطريق السالك نحو المراكز القيادية والمجتمعية. وبالطبع.. فإن موضوعي هذا لا علاقة له بمن حصل على المؤهلات العليا بالجد والمثابرة والبحث وسهر الليالي الطوال، فهؤلاء معروفون، وعلمهم ذائع، وكفاءتهم مشهود لها؛ ولكنني بالطبع أعني تلك الشريحة الجديدة التي ذكرتها. فأي قيمة معرفية نرتجيها أو يرتجيها صاحبها من شهادة ورقية يدفع في سبيل الحصول عليها آلاف الدولارات، وينالها في مدة قصيرة لا تتعدى الأشهر.. سوى الوجاهة.. و«الدكتور جا.. والدكتور راح..!».
ينبغي أن نشير «لوجه الله» إلى أن الحصول على هذه الشهادات يدخل ضمن دائرة «التزوير» وبيع الذمم.. خاصة وأن الذي يمنحها جامعات ومعاهد غير معترف بها أصلاً، وتمارس النصب. ومع ذلك فإن الحاصل على تلك الشهادات المزورة لا يخجل ولا يستحي ولا «يرعوي» حين يضع حرف (الدال) أمام اسمه! ثمة بيئة معينة ساهمت في الترويج لهذه الظاهرة المشينة انطلاقاً من فتحها الأبواب الموصدة، والمجالس العامرة لمثل هذه النوعية، تصوروا رجلاً أُحيل إلى المعاش سعى إلى الحصول على «الدكتوراه» في الأدب العربي من باكستان. وآخر حصل عليها من (كندا) وكان موضوعها عن الشعر الشعبي الذي لا يعرف مفرداته حتى بعض الأشقاء العرب!

لقد كانت إجابة المسؤولين وبعض مديري الجامعات شافية -من خلال الاستطلاع- حين أجمعوا على أن هذه ظاهرة مشينة.. وأن جامعاتنا لا تعترف بأي شهادة علمية إلا من خلال المؤسسات العلمية كوزارة التعليم العالي.. وبينوا أن تلك الشهادات تسيء إلى حملة الشهادات الحقيقية التي حصلوا عليها بالجهد والمثابرة والكفاءة، ومن أعرق الجامعات. الدول المتقدمة لا تجيز منح الشهادات العليا إلا لمن يقدم أبحاثاً ونظريات ودراسات جادة تضيف جديداً إلى المخزون المعرفي والعلمي.
ينبغي أن ننبه إلى أن الشهادات التي ينالها أيُّ منا هي وبال عليه ما لم يقدم ما يشفع له من علم لنيلها. أنا أعرف أن جامعاتنا لا تبعث طلابها إلا إلى جامعات عريقة ومعترف بها، وأنها لا تعترف بأي شهادة ينالها صاحبها دون الموافقة من وزارة التعليم العالي.. وهو أمر محسوم ومحمود.
وأود التذكير فقط إلى أن عباقرة العالم أمثال (اينشتاين وأديسون) وغيرهم من فلتات التاريخ العلمي.. لم يحصلوا على مؤهلات عليا. بل إن بعضهم كان فاشلاً دراسياً ،ومع ذلك قدموا للبشرية خدمات وابتكارات لازلنا نجني ثمارها حتى اليوم.
واللافت أن حمّى المؤهلات العليا قد تسللت إلى قلة من طلاب العلم الشرعي وممن تجاوزوا السبعين فسعوا إلى الحصول على «الدكتوراه»، وكأنها وحدها المفتاح السحري لثقة الناس بهم، وبعلمهم.. مع أن شيخنا العلامة/ عبدالعزيز بن باز.. رحمه الله لم يكن دكتوراً ولم يكن خريج جامعة.. ناهيك بالأئمة العظام من العلماء الأفذاذ في الفقه والحديث والعقيدة عبر مختلف العصور لم يتخرجوا من جامعات ولم ينالوا الشهادات العليا.. ومع ذلك فهم نجوم الدجى، وحجج الإسلام في كل ميدان طرقوه. واللافت أيضاً.. أن «الدكاتره» حقاً وصدقاً وعدلاً.. لا يذكرون ألقابهم العلمية إلا للضرورة عند كتابة أي موضوع.. لمعرفتهم أن القيمة الحقيقية لأي موضوع هو ما يقدمه من رؤى ومعالجة وعلم.. لا للقب العلمي. وأحمد الله -الذي لا يحمد على مكروه سواه- أن أحداً من هؤلاء القوم الذي أعنيهم لم يتطاول في أحلامه فيشتري أكثر من «دكتوراه»، وإلا لكان علينا أن نتوقع أن يكتب موضوعاً عن تحضير «الملوخية» بقلم: «الدكاترة فلان» كما كان يفعل الدكتور (زكي مبارك) حين كان يوقع مقالاته بـ(الدكاترة زكي مبارك)!
فيا قومنا.. اتقوا الله فينا وفيكم!!
تلفاكس 076221413