انتهت الحرب في محافظة صعدة اليمنية.. لكن الحديث عن اليهود تلك المنطقة لم يبدأ بعد فاليهود اليمنيون حقيقة تاريخية لا يمكن التغافل عنها في اليمن. وشواهدهم الكثيرة تمتد في العديد من المدن اليمنية ومنها العاصمة صنعاء، فقد كانوا يتواجدون في كل من عدن وإب وحجة وشبوة وبعض القرى، وهم الان محصورون في مدينة ريدة.. كما كانوا بالقرب من محافظة صعدة، وتقدر اعدادهم في المنطقتين بـ300 شخص تقريبا بعد ان كان عددهم في ستينات القرن الماضي يوازي الستين الى السبعين الفا هاجر غالبيتهم الى اسرائيل. الا ان الاحداث التي عاشتها «صعدة» مؤخرا من تمرد عسكري ممن اطلق عليهم الحوثيون وتهديدهم ومن ثم اجلائهم لليهود من تلك المحافظة كانت الشرارة الاولى لتركيز الانتباه نحو هذه الفئة لاسيما بعد استدعاء الخارجية الامريكية مؤخرا للسفير اليمني في واشنطن عبدالوهاب الحجري للاستفسار عن ذلك.
في هذا السياق قال وزير الخارجية اليمني الدكتور ابوبكر القربي لـ«عكاظ» ان بلاده تعمل على رعاية مواطنيها اليهود الذين قدرت اعدادهم بثلاثين اسرة هجروا من ديارهم في صعدة وتعمل على تسخير كافة الخدمات لهم الى ان يعودوا الى ديارهم وهو ما لقي الاشادة من قبل العديد من المنظات والدول نافيا ان تكون بلاده قد تعرضت لضغوط دولية في هذا المجال.
كانت المواجهات العسكرية في محافظة صعدة بين الحوثيين والقوات اليمنية قد بدأت في صيف 2004 وسقط خلالها العشرات من القتلى والجرحى وبعد قرابة العام اعلن الرئيس علي صالح عفوا عاما لمن القى السلاح من هؤلاء المتمردين، توقفت خلاله الحرب الى ان تجددت مطلع العام الحالي، وكان من شراراتها الرئيسية.. الرسائل التي وجهها الحوثيون ليهود منطقتي الحيد وغرير بمديرية ال سالم في محافظة صعدة تتوعدهم بالقتل ما لم يغادروا مناطقهم باعتبارهم يخدمون الصهيونية العالمية ويشجعون على تفشي الرذيلة في المجتمع. وهو الاجراء الذي هدف من خلاله الحوثيون الى استمرار معاركهم مع القوات اليمنية تحت غطاء من الضغوطات الدولية على الحكومة اليمنية بسبب افتعال ازمة الاقلية اليهودية والمذهبية والتي من خلالها تحصل الحوثيون على الدعم من بعض الدول.
المهم من ذلك ان الحكومات التي نجحت آنذاك في الخروج من هذه المعادلة التي فرضها الحوثيون باعلان الرئيس صالح وقف العمليات العسكرية خلال الاحتفال بذكرى الوحدة السابع عشر، وفتح باب الحوار لانهاء الصراع، نجحت ايضا في طي ورقة اليهود عبر تسخير الاعلام الرسمي لنقل صورة اليهود اليمنيين كمواطنين لا تفريق بينهم وبين باقي شرائح المجتمع اليمني، وهي الصورة التي اخذت عن اليهود في محافظة ريدة، أما يهود صعدة سبب الاشكال المحلي والذي امتد عالميا، وان بدا احتفاء الاعلام بهم جليا في بادئ الامر، اسدل عليهم بعد ذلك ستار التعتيم المطبق لاسيما بعد ترحيلهم الى المدينة السياحية في صنعاء وهو المكان الذي يمتاز بالحراسات الامنية المشددة نظير احتضانها لكثير من الاجانب ووقوعها بالقرب من السفارة الامريكية.
لقد انتهت الحرب في صعدة باعلان زعيم التمرد هناك عبدالملك الحوثي وقف القتال والتزامه وانصاره بالنظام الجمهوري وبالقوانين في بلاده والخروج الى قطر، لكن هل لا تزال ذكرى التهجير ومرارتها عند اولئك اليهود.
ولذا كان عليّ الالتقاء بيهود صعدة لمعرفة الاشكالات التي واجهوها منذ رسائل التهديد الى وصولهم صنعاء، ولتحقيق ذلك كان لابد من التنسيق مع ادارة العلاقات العامة بوزارة الداخلية اليمنية التي رحبت بالامر.
وحتى يتسنى لي تحقيق هذا الهدف استعنت ببعض الصحفيين اليمنيين ممن تمكنوا من اجراء لقاءات صيحفة بيهود «ريدة» عل وعسى ان نصل من خلالهم الى اخوانهم في الدين.. يهود صعدة القابعين في المدينة السياحية.
كان من ابرز هؤلاء الصحفيين، الصحفي وهيب النصاري والذي من خلاله تم الاتصال ببعض اليهود داخل المدينة السياحية الا ان محاولاته كان مصيرها الفشل.. فجميع الارقام تلك لا يتم الاجابة عليها، فنغمة الاتصال دائما ما تتحول الى مقطوعة موسيقية، وهو ما استنتجنا منه ان تلكم الارقام لا يمكن من خلالها الاتصال بأصحابها كما هو معتاد وقد يكون الامر غير ذلك وان يكون الامر اسهل من ذلك بكثير ولكن ها هي عقلية الصحفي عندما تعترضه بعض الصعاب على اي حال لم يكن هناك من بديل سوى الذهاب الى تلك المدينة تحت مسمى «سائح» واستئجار شقة سكنية في احدى ابراجها عل وعسى ان نتمكن من اجراء اللقاءات مع بعض النازحين من هؤلاء اليهود.
كان الهدوء والامن سمتين ظاهرتين للمدينة السياحية.. كم كانت دهشتي وأنا أرى عددا من اطفال اليهود وهم يلعبون في حديقة المدينة، فيما انقسم الكبار منهم ما بين حامل لبضائع المتسوقين وجالس عند مدخل البقالة.
لم تكن هناك اي مظاهر للامن تحيط بهم ولولا الزنانير ـ خصال الشعر المتدلية على الاذان والتي يربيها اليهود في العادة ـ لما عرفت ان هؤلاء الاطفال من تلك الديانة.
تدافعت في ذهني العديد من التساؤلات منها ما يتعلق بعادات اليهود وتقاليدهم وعلاقاتهم بافراد المجتمع اليمني المسلم والحكومة، ووجدت اجابات كل ذلك في سؤال كبيرهم عن اسمه الذي قال: ادعى موسى بن سليمان، وهذا ابني عبدالله وهذا ابن اخي يحيى، ونعمل مؤقتا في هذه البقالة من خلال حمل البضائع اليها او منها الى بعض القاطنين في المدينة السياحية، ونحن نقيم هنا على ضيافة الحكومة ورعايتها ولا ضير في كسب المال من خلال هذه الاعمال البسيطة.
موسى الملتحي والذي جاوز عقده الخمسين من العمر كان ملما بأصول القبائل وفروعها لاسيما في مدينة صعدة وكم هو مؤلم ان نغادرها تحت تهديد السلاح.. لكننا سنعود اليها.. فنحن لم نكن طرفا في تلك الحرب بل اقحمنا فيها لاعتبارات ليس لنا منها اي طائل، ولا ادري ما الذي نبه الحوثيين الينا بعد ان عشنا لمئات السنين في مختلف القرى والمدن اليمنية.
لم يكد سليمان يكمل حديثه الا وبسيارة تقف أمامنا وبشكل مسرع دون ان يخرج قائدها الذي اكتفى باشارة من يده دلت عن التساؤل عما نفعله، وطلبت من سليمان ان يذهب لصاحبها مسرعا، فأومأ اليه بحركات دلت على الطاعة والانصياع.. وليتركني بعدها دون استئذان الا من نظرات ملؤها الحذر والوجل.
على أية حال لم ينته الحوار عند هذا الحد عن ومع يهود صعدة، فاخفائي لهويتي الصحفية جعلني مطمئنا الى حد ما لاستكمال اجراء اللقاءات معهم ولذا تحولت نحو المطعم الذي تجاوره الحديقة التي كان الأطفال اليهود يلهون في العابها.
وما كان يثير الدهشة هو فراسة هؤلاء الاطفال وفصاحتهم وتقيدهم بالزي التقليدي لليهود فما ان اقتربت منهم الا وهربوا بعد ان اطلقوا صيحات تدل على معرفتهم بي كصحفي يريد التقاط الصور لهم واجراء اللقاءات معهم، الا ان تدخل الموجودين من العاملين في المطعم اقنع بعضا منهم بالمجيء طواعية اليّ وكان اجرأهم في الحديث هو الطفل «نوفبيل» الذي اعاد اليّ اسمه اكثر من خمس مرات، ولعلني أفلح هنا في كتابته بالشكل الصحيح رغم عدم فهمي لمعناه.
هذا الطفل الصغير يعيش مع أسرته وخاله داخل المدينة السياحية، فوالده كما قال لا يزال هاربا منذ ان تجددت الاحداث في صعدة، اما لماذا هرب فلم يبح الطفل بهذا السر.. سوى ان حياتهم جميلة هنا -في المدينة- في ظل رعاية خاله.
اما الطفل الآخر الذي كان أكبر سنا ويدعى موسى فلم يزد على محبته للعب مع اقرانه في الحديقة ووصفه للحياة داخل المدينة السياحية بالآمنة والهادئة.
تلك الاجابات الطفولية والمختصرة استدعتني للعودة الى البقالة الرئيسية في المدينة السياحية لعلني أسهب في الحديث مع عدد من اليهود المتجمعين هناك.
حين عدت وجدت عبدالله بن موسى بن سليمان وآخر من أبناء عمومته انشغل بحمل انبوبة الغاز لأحد القاطنين في المدينة السياحية.
عبدالله الذي بدا شابا يافعا في مقتبل العمر لم يزد في الحديث عن همه في ايجاد وظيفة دائمة تؤمن له قوت يومه بعيدا عن أي تعقيدات تفرزها الأحداث في موطنه «صعدة» أو أي تطورات في وضع أسرته داخل المدينة السياحية.
شهادات متفرقة
يقول «محمد» العامل في البقالة: هنا يتجمع اليهود المقيمون في المدينة السياحية يوميا ما عدا يوم السبت حيث اجازتهم الاسبوعية التي لا يحبذون الخروج خلالها ولو انصت لاحاديثهم قبل ان تتحدث لهم لوجدت انها تنحصر في أمور العمل أو النقاش في ما يتعلق بالتعاليم اليهودية.. وهذا ديدنهم اليومي، فهم مسالمون بطبعهم لا تجد إشكالا في التقرب اليهم كما رأيت رغم الظروف التي عاشوها والتي بسببها هجروا من ديارهم.
ويقول آخر: ليس هناك ما يميز هؤلاء اليهود عنا كيمنيين سوى الظروف التي مروا بها، ومزاولتهم لأمور دينهم وتعليمها لأبنائهم الصغار، فكما تعلم لا توجد هنا مدارس او معابد خاصة باليهود سوى في مدينة ريدة، وما اعلمه انه حتى في ديارهم -في صعدة- لا توجد مدارس خاصة بهم فأكثر هؤلاء يتعلمون ضمن جهودهم الذاتية، وهذه ميزة تحسب لهم.
ويضيف: اليهود ليسوا بمعزل عن بقية المجتمع، وهم مؤمنون بهذه الحقيقة، ولذا لا تجد الفرق في حياتهم أو في تعاملهم عن باقي أفراد المجتمع اليمني، ربما يكون من ميزاتهم في الظاهر خصال شعرهم المتدلية من على رؤوسهم او مزاولة معظمهم للمهن اليدوية بسبب توارثهم اياها كما هو حالهم في عدم لباسهم «الجنبية» اليمنية لاعتقادهم انهم أهل ذمة في الاسلام لا يلبسون الاسلحة والتزام معظمهم بتعاليم دينهم في العادات والعبادات ويظل في النهاية قاسمهم المشترك مع المجتمع اليمني انهم يمنيون يلتزمون بعادات وتقاليد المجتمع حتى ولو كانوا في اسرائيل.. وفي حالهم كما تحكيه التقارير الصحفية والعائدون منهم من هناك.
تاريخ وحقائق
استوطن اليهود اليمن منذ وقت طويل حيث كشفت النقوش التاريخية هناك ان عددا منهم جاء لليمن منذ عهد الدولة الحميرية، ويرى الباحث علي عبده صاحب الدراسة عن «يهود البلاد العربية» ان من الملاحظ على يهود اليمن صفات ومميزات المجتمع اليمني، فيما تظهر على ملامح البعض منهم ملامح وسمات اجنبية، مما يدل على ان اليهود كانوا ينقسمون في السابق ما بين مهاجر جاء الى اليمن وآخر معتنق للديانة اليهودية.
وبالرغم من الظروف التي يعيشها اليهود الآن في محافظة صعدة وفي مقابل الاغراءات المادية التي تتقدم بها بعض المنظمات الدولية لهم في سبيل ترحيلهم، الا ان من بقي الآن منهم يرفض الرحيل باعتبار ان الوضع الاجتماعي التحرري سواء في اسرائيل أو في أمريكا او في أي من الدول الأوروبية التي دائما ما تكون محطة عبور للهجرة الى اسرائيل لا يتطابق مع عاداتهم وتقاليدهم المحافظة كما ان هناك من يرفض الهجرة لاعتبارات دينية حيث يرى أصحاب هذا الرأي ان قيام اسرائيل يأتي مخالفا لما جاء في التوراة ولتعاليمها فيما يرى فريق آخر ان التمييز العنصري في المجتمع الاسرائيلي يقف عائقا كبيرا في استقرارهم داخل اسرائيل.
وقد روى كثير من اليمنيين اليهود في اسرائيل او العائدين منها تفاصيل معاناتهم كيمنيين داخل المجتمع الاسرائيلي للصحافة ولمن بقي في اليمن.
وتأتي موجة الرفض من قبل اليهود اليمنيين لفكرة الهجرة الى اسرائيل رغم ان اكثرهم متوسطو التعليم ولا يمتهنون الا الحرف اليدوية في بلادهم.. كصناعة الخزف والاحذية وترقيعها وحياكة الملابس وصناعة الحلي والاسلحة الخفيفة ومنها الجنابي التي اشتهروا بصناعتها بالرغم من انهم لا يلبسونها.
عودا لبدء
تهجير المتمردين الحوثيين في صعدة سلط الضوء على واقع هذه الفئة وانتمائها لوطنها بشكل خرج عن توقعات الحوثيين انفسهم.
فبامكان تلك الاسر اليهودية التي هجرت استثمار ظروفها الطارئة للهجرة التي حرموا منها في السابق ناهيك عن المغريات التي انهالت عليهم ولا تزال تقدمها العديد من المنظمات اليهودية العاملة تحت مسميات مختلفة.
وباستطاعتهم جعل واقعهم قضية دولية لأجل تحقيق مصالحهم الفئوية.. وهو ما سيكون في صالح الحوثيين ايضا.
لكن الواقع جاء عكس ذلك، ولأنهم يمنيون عاشوا في صنعاء كما كانوا في صعدة ليس من فارق بين المدينتين سوى مرارة التهجير عن الديار. هم يمنيون كما هم يهود لهم الحق في العيش على كامل ترابهم الوطني، وهو الحق الذي لم يجحدهم اياه المجتمع اليمني طيلة قرون مضت والى الان.. سوى الحوثيين.
لكن اللافت في هذا السياق استمرار عزل هؤلاء اليهود- يهود صعدة- في المدينة السياحية على الرغم من ان الهجرة ليست بالامر الوارد بالنسبة لهم وفي عزلهم ما قد يفاقم من قضيتهم المطروحة عند كثير من المنظمات بل والدول التي تطرقت لها.. من ذلك الادارة الامريكية وبالطبع اسرائيل.
فاذا كان دافع العزل هو الخوف من انتقام الحوثيين والمتعاطفين منهم وهم داخل العاصمة.. فأين تلك المخاوف وهم يعيشون في ريدة!!
وما يجدر الاشارة اليه في هذا السياق ان التعتيم الاعلامي كان ولا يزال سببا في فضول كثير من وسائل الاعلام الاجنبية لمعرفة واقع ومصير هؤلاء اليهود، وهو ما قد ينجم عنه خلق كثير من الإشكال اذا ما استغلته بعض المنظمات والجهات في تضخيم قضية.. هي ليست كذلك.
في هذا السياق قال وزير الخارجية اليمني الدكتور ابوبكر القربي لـ«عكاظ» ان بلاده تعمل على رعاية مواطنيها اليهود الذين قدرت اعدادهم بثلاثين اسرة هجروا من ديارهم في صعدة وتعمل على تسخير كافة الخدمات لهم الى ان يعودوا الى ديارهم وهو ما لقي الاشادة من قبل العديد من المنظات والدول نافيا ان تكون بلاده قد تعرضت لضغوط دولية في هذا المجال.
كانت المواجهات العسكرية في محافظة صعدة بين الحوثيين والقوات اليمنية قد بدأت في صيف 2004 وسقط خلالها العشرات من القتلى والجرحى وبعد قرابة العام اعلن الرئيس علي صالح عفوا عاما لمن القى السلاح من هؤلاء المتمردين، توقفت خلاله الحرب الى ان تجددت مطلع العام الحالي، وكان من شراراتها الرئيسية.. الرسائل التي وجهها الحوثيون ليهود منطقتي الحيد وغرير بمديرية ال سالم في محافظة صعدة تتوعدهم بالقتل ما لم يغادروا مناطقهم باعتبارهم يخدمون الصهيونية العالمية ويشجعون على تفشي الرذيلة في المجتمع. وهو الاجراء الذي هدف من خلاله الحوثيون الى استمرار معاركهم مع القوات اليمنية تحت غطاء من الضغوطات الدولية على الحكومة اليمنية بسبب افتعال ازمة الاقلية اليهودية والمذهبية والتي من خلالها تحصل الحوثيون على الدعم من بعض الدول.
المهم من ذلك ان الحكومات التي نجحت آنذاك في الخروج من هذه المعادلة التي فرضها الحوثيون باعلان الرئيس صالح وقف العمليات العسكرية خلال الاحتفال بذكرى الوحدة السابع عشر، وفتح باب الحوار لانهاء الصراع، نجحت ايضا في طي ورقة اليهود عبر تسخير الاعلام الرسمي لنقل صورة اليهود اليمنيين كمواطنين لا تفريق بينهم وبين باقي شرائح المجتمع اليمني، وهي الصورة التي اخذت عن اليهود في محافظة ريدة، أما يهود صعدة سبب الاشكال المحلي والذي امتد عالميا، وان بدا احتفاء الاعلام بهم جليا في بادئ الامر، اسدل عليهم بعد ذلك ستار التعتيم المطبق لاسيما بعد ترحيلهم الى المدينة السياحية في صنعاء وهو المكان الذي يمتاز بالحراسات الامنية المشددة نظير احتضانها لكثير من الاجانب ووقوعها بالقرب من السفارة الامريكية.
لقد انتهت الحرب في صعدة باعلان زعيم التمرد هناك عبدالملك الحوثي وقف القتال والتزامه وانصاره بالنظام الجمهوري وبالقوانين في بلاده والخروج الى قطر، لكن هل لا تزال ذكرى التهجير ومرارتها عند اولئك اليهود.
ولذا كان عليّ الالتقاء بيهود صعدة لمعرفة الاشكالات التي واجهوها منذ رسائل التهديد الى وصولهم صنعاء، ولتحقيق ذلك كان لابد من التنسيق مع ادارة العلاقات العامة بوزارة الداخلية اليمنية التي رحبت بالامر.
وحتى يتسنى لي تحقيق هذا الهدف استعنت ببعض الصحفيين اليمنيين ممن تمكنوا من اجراء لقاءات صيحفة بيهود «ريدة» عل وعسى ان نصل من خلالهم الى اخوانهم في الدين.. يهود صعدة القابعين في المدينة السياحية.
كان من ابرز هؤلاء الصحفيين، الصحفي وهيب النصاري والذي من خلاله تم الاتصال ببعض اليهود داخل المدينة السياحية الا ان محاولاته كان مصيرها الفشل.. فجميع الارقام تلك لا يتم الاجابة عليها، فنغمة الاتصال دائما ما تتحول الى مقطوعة موسيقية، وهو ما استنتجنا منه ان تلكم الارقام لا يمكن من خلالها الاتصال بأصحابها كما هو معتاد وقد يكون الامر غير ذلك وان يكون الامر اسهل من ذلك بكثير ولكن ها هي عقلية الصحفي عندما تعترضه بعض الصعاب على اي حال لم يكن هناك من بديل سوى الذهاب الى تلك المدينة تحت مسمى «سائح» واستئجار شقة سكنية في احدى ابراجها عل وعسى ان نتمكن من اجراء اللقاءات مع بعض النازحين من هؤلاء اليهود.
كان الهدوء والامن سمتين ظاهرتين للمدينة السياحية.. كم كانت دهشتي وأنا أرى عددا من اطفال اليهود وهم يلعبون في حديقة المدينة، فيما انقسم الكبار منهم ما بين حامل لبضائع المتسوقين وجالس عند مدخل البقالة.
لم تكن هناك اي مظاهر للامن تحيط بهم ولولا الزنانير ـ خصال الشعر المتدلية على الاذان والتي يربيها اليهود في العادة ـ لما عرفت ان هؤلاء الاطفال من تلك الديانة.
تدافعت في ذهني العديد من التساؤلات منها ما يتعلق بعادات اليهود وتقاليدهم وعلاقاتهم بافراد المجتمع اليمني المسلم والحكومة، ووجدت اجابات كل ذلك في سؤال كبيرهم عن اسمه الذي قال: ادعى موسى بن سليمان، وهذا ابني عبدالله وهذا ابن اخي يحيى، ونعمل مؤقتا في هذه البقالة من خلال حمل البضائع اليها او منها الى بعض القاطنين في المدينة السياحية، ونحن نقيم هنا على ضيافة الحكومة ورعايتها ولا ضير في كسب المال من خلال هذه الاعمال البسيطة.
موسى الملتحي والذي جاوز عقده الخمسين من العمر كان ملما بأصول القبائل وفروعها لاسيما في مدينة صعدة وكم هو مؤلم ان نغادرها تحت تهديد السلاح.. لكننا سنعود اليها.. فنحن لم نكن طرفا في تلك الحرب بل اقحمنا فيها لاعتبارات ليس لنا منها اي طائل، ولا ادري ما الذي نبه الحوثيين الينا بعد ان عشنا لمئات السنين في مختلف القرى والمدن اليمنية.
لم يكد سليمان يكمل حديثه الا وبسيارة تقف أمامنا وبشكل مسرع دون ان يخرج قائدها الذي اكتفى باشارة من يده دلت عن التساؤل عما نفعله، وطلبت من سليمان ان يذهب لصاحبها مسرعا، فأومأ اليه بحركات دلت على الطاعة والانصياع.. وليتركني بعدها دون استئذان الا من نظرات ملؤها الحذر والوجل.
على أية حال لم ينته الحوار عند هذا الحد عن ومع يهود صعدة، فاخفائي لهويتي الصحفية جعلني مطمئنا الى حد ما لاستكمال اجراء اللقاءات معهم ولذا تحولت نحو المطعم الذي تجاوره الحديقة التي كان الأطفال اليهود يلهون في العابها.
وما كان يثير الدهشة هو فراسة هؤلاء الاطفال وفصاحتهم وتقيدهم بالزي التقليدي لليهود فما ان اقتربت منهم الا وهربوا بعد ان اطلقوا صيحات تدل على معرفتهم بي كصحفي يريد التقاط الصور لهم واجراء اللقاءات معهم، الا ان تدخل الموجودين من العاملين في المطعم اقنع بعضا منهم بالمجيء طواعية اليّ وكان اجرأهم في الحديث هو الطفل «نوفبيل» الذي اعاد اليّ اسمه اكثر من خمس مرات، ولعلني أفلح هنا في كتابته بالشكل الصحيح رغم عدم فهمي لمعناه.
هذا الطفل الصغير يعيش مع أسرته وخاله داخل المدينة السياحية، فوالده كما قال لا يزال هاربا منذ ان تجددت الاحداث في صعدة، اما لماذا هرب فلم يبح الطفل بهذا السر.. سوى ان حياتهم جميلة هنا -في المدينة- في ظل رعاية خاله.
اما الطفل الآخر الذي كان أكبر سنا ويدعى موسى فلم يزد على محبته للعب مع اقرانه في الحديقة ووصفه للحياة داخل المدينة السياحية بالآمنة والهادئة.
تلك الاجابات الطفولية والمختصرة استدعتني للعودة الى البقالة الرئيسية في المدينة السياحية لعلني أسهب في الحديث مع عدد من اليهود المتجمعين هناك.
حين عدت وجدت عبدالله بن موسى بن سليمان وآخر من أبناء عمومته انشغل بحمل انبوبة الغاز لأحد القاطنين في المدينة السياحية.
عبدالله الذي بدا شابا يافعا في مقتبل العمر لم يزد في الحديث عن همه في ايجاد وظيفة دائمة تؤمن له قوت يومه بعيدا عن أي تعقيدات تفرزها الأحداث في موطنه «صعدة» أو أي تطورات في وضع أسرته داخل المدينة السياحية.
شهادات متفرقة
يقول «محمد» العامل في البقالة: هنا يتجمع اليهود المقيمون في المدينة السياحية يوميا ما عدا يوم السبت حيث اجازتهم الاسبوعية التي لا يحبذون الخروج خلالها ولو انصت لاحاديثهم قبل ان تتحدث لهم لوجدت انها تنحصر في أمور العمل أو النقاش في ما يتعلق بالتعاليم اليهودية.. وهذا ديدنهم اليومي، فهم مسالمون بطبعهم لا تجد إشكالا في التقرب اليهم كما رأيت رغم الظروف التي عاشوها والتي بسببها هجروا من ديارهم.
ويقول آخر: ليس هناك ما يميز هؤلاء اليهود عنا كيمنيين سوى الظروف التي مروا بها، ومزاولتهم لأمور دينهم وتعليمها لأبنائهم الصغار، فكما تعلم لا توجد هنا مدارس او معابد خاصة باليهود سوى في مدينة ريدة، وما اعلمه انه حتى في ديارهم -في صعدة- لا توجد مدارس خاصة بهم فأكثر هؤلاء يتعلمون ضمن جهودهم الذاتية، وهذه ميزة تحسب لهم.
ويضيف: اليهود ليسوا بمعزل عن بقية المجتمع، وهم مؤمنون بهذه الحقيقة، ولذا لا تجد الفرق في حياتهم أو في تعاملهم عن باقي أفراد المجتمع اليمني، ربما يكون من ميزاتهم في الظاهر خصال شعرهم المتدلية من على رؤوسهم او مزاولة معظمهم للمهن اليدوية بسبب توارثهم اياها كما هو حالهم في عدم لباسهم «الجنبية» اليمنية لاعتقادهم انهم أهل ذمة في الاسلام لا يلبسون الاسلحة والتزام معظمهم بتعاليم دينهم في العادات والعبادات ويظل في النهاية قاسمهم المشترك مع المجتمع اليمني انهم يمنيون يلتزمون بعادات وتقاليد المجتمع حتى ولو كانوا في اسرائيل.. وفي حالهم كما تحكيه التقارير الصحفية والعائدون منهم من هناك.
تاريخ وحقائق
استوطن اليهود اليمن منذ وقت طويل حيث كشفت النقوش التاريخية هناك ان عددا منهم جاء لليمن منذ عهد الدولة الحميرية، ويرى الباحث علي عبده صاحب الدراسة عن «يهود البلاد العربية» ان من الملاحظ على يهود اليمن صفات ومميزات المجتمع اليمني، فيما تظهر على ملامح البعض منهم ملامح وسمات اجنبية، مما يدل على ان اليهود كانوا ينقسمون في السابق ما بين مهاجر جاء الى اليمن وآخر معتنق للديانة اليهودية.
وبالرغم من الظروف التي يعيشها اليهود الآن في محافظة صعدة وفي مقابل الاغراءات المادية التي تتقدم بها بعض المنظمات الدولية لهم في سبيل ترحيلهم، الا ان من بقي الآن منهم يرفض الرحيل باعتبار ان الوضع الاجتماعي التحرري سواء في اسرائيل أو في أمريكا او في أي من الدول الأوروبية التي دائما ما تكون محطة عبور للهجرة الى اسرائيل لا يتطابق مع عاداتهم وتقاليدهم المحافظة كما ان هناك من يرفض الهجرة لاعتبارات دينية حيث يرى أصحاب هذا الرأي ان قيام اسرائيل يأتي مخالفا لما جاء في التوراة ولتعاليمها فيما يرى فريق آخر ان التمييز العنصري في المجتمع الاسرائيلي يقف عائقا كبيرا في استقرارهم داخل اسرائيل.
وقد روى كثير من اليمنيين اليهود في اسرائيل او العائدين منها تفاصيل معاناتهم كيمنيين داخل المجتمع الاسرائيلي للصحافة ولمن بقي في اليمن.
وتأتي موجة الرفض من قبل اليهود اليمنيين لفكرة الهجرة الى اسرائيل رغم ان اكثرهم متوسطو التعليم ولا يمتهنون الا الحرف اليدوية في بلادهم.. كصناعة الخزف والاحذية وترقيعها وحياكة الملابس وصناعة الحلي والاسلحة الخفيفة ومنها الجنابي التي اشتهروا بصناعتها بالرغم من انهم لا يلبسونها.
عودا لبدء
تهجير المتمردين الحوثيين في صعدة سلط الضوء على واقع هذه الفئة وانتمائها لوطنها بشكل خرج عن توقعات الحوثيين انفسهم.
فبامكان تلك الاسر اليهودية التي هجرت استثمار ظروفها الطارئة للهجرة التي حرموا منها في السابق ناهيك عن المغريات التي انهالت عليهم ولا تزال تقدمها العديد من المنظمات اليهودية العاملة تحت مسميات مختلفة.
وباستطاعتهم جعل واقعهم قضية دولية لأجل تحقيق مصالحهم الفئوية.. وهو ما سيكون في صالح الحوثيين ايضا.
لكن الواقع جاء عكس ذلك، ولأنهم يمنيون عاشوا في صنعاء كما كانوا في صعدة ليس من فارق بين المدينتين سوى مرارة التهجير عن الديار. هم يمنيون كما هم يهود لهم الحق في العيش على كامل ترابهم الوطني، وهو الحق الذي لم يجحدهم اياه المجتمع اليمني طيلة قرون مضت والى الان.. سوى الحوثيين.
لكن اللافت في هذا السياق استمرار عزل هؤلاء اليهود- يهود صعدة- في المدينة السياحية على الرغم من ان الهجرة ليست بالامر الوارد بالنسبة لهم وفي عزلهم ما قد يفاقم من قضيتهم المطروحة عند كثير من المنظمات بل والدول التي تطرقت لها.. من ذلك الادارة الامريكية وبالطبع اسرائيل.
فاذا كان دافع العزل هو الخوف من انتقام الحوثيين والمتعاطفين منهم وهم داخل العاصمة.. فأين تلك المخاوف وهم يعيشون في ريدة!!
وما يجدر الاشارة اليه في هذا السياق ان التعتيم الاعلامي كان ولا يزال سببا في فضول كثير من وسائل الاعلام الاجنبية لمعرفة واقع ومصير هؤلاء اليهود، وهو ما قد ينجم عنه خلق كثير من الإشكال اذا ما استغلته بعض المنظمات والجهات في تضخيم قضية.. هي ليست كذلك.