-A +A
د. طلال صالح بنان
المتابع لحركة السياسة الخارجية الأمريكية في التعامل مع أزمة الشرق الأوسط، يرى أن أي إدارة أمريكية جديدة تبدأ تعاطيها مع المشكلة في بداية عهدها بفتور يكرس حالة اللا سلم واللا حرب السائدة طوال عمر هذه الأزمة المديد.. وأن أي تحرك، أثناء فترة حكمها، يتوقف على تطورات الأزمة بعيداً عن استراتيجية احتوائها التي تأخذ بها واشنطن، إلى أن يأزف وقت خروج الإدارة من البيت البيض. إدارة الرئيس بوش تمثل نموذجاً “كلاسيكياً” لهذا التعاطي الأمريكي مع الأزمة. السياسة الخارجية لإدارة الرئيس بوش تجاه المنطقة بدأت بلا مبالاة متطرفة في سلبيتها حتى أنها كادت تأتي على إنجاز الإدارات الأمريكية السابقة، في ما يطلق عليه بجهود السلام الأمريكية. لعلَ البعض قد نسي أن أول تعاط لإدارة الرئيس بوش، في بداية عهدها، كان التفكير في إعادة النظر في القوات متعددة الجنسية، التي تفصل بين الحدود المصرية والإسرائيلية بناءً على اتفاقية السلام بينهما، التي وُقعت بمباركة أمريكية، كحل بديل لرفض الأمم المتحدة، آنذاك، نشر قوات دولية هناك، لتتكفل الولايات المتحدة بتكاليف نشر تلك القوات متعددة الجنسية. يومها رحبت إسرائيل (شارون)، بخط التفكير الأمريكي هذا من أجل التملص من مسئوليتها تجاه معاهدة السلام مع مصر، وإعادة المنطقة من جديد لأجواء التوتر والحرب.
واشنطن، بعد غزو العراق وقبله.. بل وحتى قبل ذلك، في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر 2001، أخذت منطقة الشرق الأوسط تحظى بأولوية خاصة في أجندة السياسة الخارجية الأمريكية، لأن تلك الأحداث أتت بالأزمة إلى واشنطن ذاتها، وكان من الضروري أن تتعامل واشنطن مع أزمة الشرق الأوسط بالاحترام الذي تستحقه، مما قطع حبل ذلك التفكير السلبي تجاه تجاهل المنطقة وأزماتها. لكن، على أي حال لم تتخل واشنطن عن دعائم تحرك سياستها التقليدية تجاه قضايا المنطقة، في التأكيد على مساندة إسرائيل.. وتجاهل أن حالة العداء لها المتنامية بين شعوب المنطقة الأخرى سببها هذا العناد الأمريكي بالتحيز الأعمى لإسرائيل متحديةً حتى أبجديات خدمة مصالحها فيها، بل وأمنها القومي، نفسه.

اليوم، تحاول إدارة الرئيس بوش أن تختم ملف تعاملها مع قضايا المنطقة وأزماتها، التي لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة، بدأت تطرق أبواب البيت الأبيض بشدة وعنف، لينتهي الأمر بتورط أمريكي صعب في العراق يستقطب نشاط مؤسسات النظام السياسي الأمريكي الرسمية وغير الرسمية. لا يمكن فهم مبادرة الرئيس بوش الذي دعا فيها أمس الأول إلى عقد مؤتمر دولي يتمخض عنه تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ويتوج بقيام دولة فلسطينية، في ما يعكس تمسكه بمشروعه لدولتين إسرائيلية وفلسطينية، الذي أعلنه في العقبة 2003، بعد غزو العراق، بعيداً عن هذه الدائرة المفرغة والمتكررة التي تُقاس بها فترات الجزر والمد في حركة السياسة الخارجية تجاه المنطقة، تبعاً للظرف الزماني الذي يجدول لتعاقب عهود الإدارات الأمريكية المختلفة. هذا، بدوره، وثيق الصلة بالنشاط السياسي في أمريكا، قرب موعد الانتخابات الرئاسية، ليتباهى الحزب الحاكم بإنجازاته في خدمة مصالح إسرائيل، من أجل أن يُزَايد عليه الحزب الآخر في المعارضة في مزيد من خدمة ودعم مصالح إسرائيل وأمنها، مهما كانت تبعات ذلك سلبية على مصالح الولايات المتحدة وأمنها.
باختصار الرئيس بوش يريد أن يدخل التاريخ بأنه الرئيس الأمريكي الوحيد الذي أسس لقيام دولة يهودية في فلسطين، بإنهاء كل دعاوى الطرف الآخر السياسية والتاريخية والأخلاقية والإنسانية، بإحداث اختراق استراتيجي يتمثل في إنهاء حالة الصراع السياسي والأخلاقي والقانوني العنيف بين الفلسطينيين وإسرائيل، حتى تُفرغ الساحة الأوسع (العربية والإسرائيلية) من مبررات وجودها ومنطق استمرارها... ولا يكون أمام العرب، كما جاء في خطابه، إلا أن التخلص من ما أسماه “وهم” عدم وجود إسرائيل، وبدء حوار معها...!؟ كأن ليس للعرب من مطالب تجاه فكرة وجود إسرائيل في المنطقة، إلا تسوية خلافات إسرائيل مع الفلسطينيين، بأي ثمن..!؟
لا جديد في مبادرة الرئيس الأمريكي بعقد مؤتمر دولي لحل ما أسماه الخلاف الفلسطيني الإسرائيلي، بالصورة التي تضمن تحقيق إسرائيل لأهداف إدارتها للصراع، في ظل الاحتلال وتجاهل حقوق الفلسطينيين. بمعنى، آخر ليس هناك مجال لمناقشة مبادرة السلام العربية، مما يعني ليس هناك اهتمام، بالمرة، لإقامة سلام عادل وشامل على أرض الرسالات.