المتابع لتداعيات القضايا والملفات السياسية في الشرق الأوسط يصاب بالحيرة لتسارع وغموض وتعقيد وتقلب مسارها. فهي أشبه بكرة القدم التي غالباً ما يصفها ممارسوها ومتابعوها بأنها «مدورة», يعني ليس لها أمان ولا يمكن توقع نتيجتها. كذلك هي حال السياسة الشرق أوسطية في عهد الهيمنة الأمريكية. خذ على سبيل المثال ما جرى خلال الأيام القليلة الماضية: اجتماع بين أمريكا وايران في العراق لمناقشة الوضع الأمني المتدهور فيه, كذلك عقد اجتماع آخر في سوريا لمناقشة الملف الأمني العراقي يشارك فيه مسؤولون أمريكيون. كل ذلك يتم رغم أن أمريكا تهاجم سوريا وايران بشراسة وترفض في مناسبات عدة التحاور معهما, وتتهمهما بزيادة جراحها في العراق, بل تحاول تهميش دورهما الإقليمي ومحاصرتهم وحملهما على السير مع الركب الأمريكي, بدلاً من التغريد خارج السرب. وكثيراً ما عارضت الإدارة الأمريكية التعاون مع هاتين الدولتين حيال القضايا الإقليمية. لكن الأفعال تناقض الأقوال مؤخراً.
السبب بطبيعة الحال يكمن في تشابك الملفات والقضايا الإقليمية, بمعنى أن منطقة الشرق الأوسط لها رونق خاص يميزها عن غيرها من المناطق في العالم. فالتداخلات الثقافية والمصلحية والتاريخية بين شعوب المنطقة, والجوار الجغرافي الذي يربطها, تجعل مصيرهم مشتركاً, وقضاياهم غير قابلة للتجزئة. ويكون للتدخل الخارجي في جزء من المنطقة تبعات وتداعيات على بقية الأجزاء. لكن من يفهم العم سام بذلك؟ فهو لا يزال يحاول صياغة مصير هذه المنطقة الملتهبة بطريقته الخاصة العقيمة, دون أن يكون هناك تحسن في أوضاعها المتأزمة. فكل استراتيجية جديدة يتبناها, وتقبلها دول المنطقة مجبرةً, تحمل بذور فنائها. لأنها لا تأخذ المعطيات التي ذكرناها في الحسبان, أي أنها لا تعطي وزناً مناسباً لحدة التداخلات أو حتى التناقضات بين الدول الإقليمية. لكن العزاء الوحيد لشعوب المنطقة المغلوبة على أمرها أن الغازي والمحتل بدأ يعاني هو الآخر, بينما في الفترات الماضية كان بعيداً عن أية معاناة. احتلال العراق بدأ فعلاً وكأنه بداية تراجع الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط, تماماً كما يعتقد ريتشارد هاس, رئيس مجلس العلاقات الخارجية, رغم أن أمريكا لا تزال هي اللاعب الأوحد في المنطقة حتى الآن. بل إن الفشل الأمريكي في العراق شكل حافزاً للقوى العالمية الأخرى لتعزيز مصالحها في مناطق مختلفة من العالم, متجاهلةً ردة الفعل الأمريكية, كما في تطوير روسيا قدراتها الإستراتيجية ومحاولتها سبر أغوار القطب المتجمد الشمالي بحثاً عن النفط, ووضعها العلم الروسي في قاع المحيط كمؤشر على سيادتها على تلك المياه. كما أن الصين هي الأخرى بدأت توسع علاقاتها وتدخلها في القارة الأفريقية, خاصةً في المجال الاقتصادي الذي يتوقع له أن يكون مصدر الصراع في المستقبل, خلافاً لما تنبأ به أرباب الفكر الإستراتيجي الأمريكي من أن مصدر الصراع في مرحلة ما بعد الحرب الباردة سوف تكون الاعتبارات الثقافية والحضارية.
إذاً, يقف المرء حائراً, متخماً بالأسئلة التي لا تجد لها إجابة حول الكيفية التي تدار بها شؤون المنطقة. فلا صناع القرار المحليون قادرون على التعاطي بمنطق عقلاني وموضوعي مع الملفات العالقة, لأنهم لا يقررون مصيرها لوحدهم, ولا الدولة العظمى قادرة على وضع رؤية إستراتيجية واضحة في هذا الشأن. في مثل هذه الحالة يظل مصير هذه المجتمعات معلقاً حتى إشعار آخر, وتزداد الحيرة حول ما هو الجديد القادم, لكن يبدو أن كل تصور جديد حول مستقبل المنطقة يبدو أغرب من سابقه.
knhabbas@hotmail.com
السبب بطبيعة الحال يكمن في تشابك الملفات والقضايا الإقليمية, بمعنى أن منطقة الشرق الأوسط لها رونق خاص يميزها عن غيرها من المناطق في العالم. فالتداخلات الثقافية والمصلحية والتاريخية بين شعوب المنطقة, والجوار الجغرافي الذي يربطها, تجعل مصيرهم مشتركاً, وقضاياهم غير قابلة للتجزئة. ويكون للتدخل الخارجي في جزء من المنطقة تبعات وتداعيات على بقية الأجزاء. لكن من يفهم العم سام بذلك؟ فهو لا يزال يحاول صياغة مصير هذه المنطقة الملتهبة بطريقته الخاصة العقيمة, دون أن يكون هناك تحسن في أوضاعها المتأزمة. فكل استراتيجية جديدة يتبناها, وتقبلها دول المنطقة مجبرةً, تحمل بذور فنائها. لأنها لا تأخذ المعطيات التي ذكرناها في الحسبان, أي أنها لا تعطي وزناً مناسباً لحدة التداخلات أو حتى التناقضات بين الدول الإقليمية. لكن العزاء الوحيد لشعوب المنطقة المغلوبة على أمرها أن الغازي والمحتل بدأ يعاني هو الآخر, بينما في الفترات الماضية كان بعيداً عن أية معاناة. احتلال العراق بدأ فعلاً وكأنه بداية تراجع الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط, تماماً كما يعتقد ريتشارد هاس, رئيس مجلس العلاقات الخارجية, رغم أن أمريكا لا تزال هي اللاعب الأوحد في المنطقة حتى الآن. بل إن الفشل الأمريكي في العراق شكل حافزاً للقوى العالمية الأخرى لتعزيز مصالحها في مناطق مختلفة من العالم, متجاهلةً ردة الفعل الأمريكية, كما في تطوير روسيا قدراتها الإستراتيجية ومحاولتها سبر أغوار القطب المتجمد الشمالي بحثاً عن النفط, ووضعها العلم الروسي في قاع المحيط كمؤشر على سيادتها على تلك المياه. كما أن الصين هي الأخرى بدأت توسع علاقاتها وتدخلها في القارة الأفريقية, خاصةً في المجال الاقتصادي الذي يتوقع له أن يكون مصدر الصراع في المستقبل, خلافاً لما تنبأ به أرباب الفكر الإستراتيجي الأمريكي من أن مصدر الصراع في مرحلة ما بعد الحرب الباردة سوف تكون الاعتبارات الثقافية والحضارية.
إذاً, يقف المرء حائراً, متخماً بالأسئلة التي لا تجد لها إجابة حول الكيفية التي تدار بها شؤون المنطقة. فلا صناع القرار المحليون قادرون على التعاطي بمنطق عقلاني وموضوعي مع الملفات العالقة, لأنهم لا يقررون مصيرها لوحدهم, ولا الدولة العظمى قادرة على وضع رؤية إستراتيجية واضحة في هذا الشأن. في مثل هذه الحالة يظل مصير هذه المجتمعات معلقاً حتى إشعار آخر, وتزداد الحيرة حول ما هو الجديد القادم, لكن يبدو أن كل تصور جديد حول مستقبل المنطقة يبدو أغرب من سابقه.
knhabbas@hotmail.com