-A +A
عبدالقادر فارس (غزة)
صدرت الطبعة الانجليزية لرواية «العاشق الفلسطيني» بعد ثلاثة اعوام على صدورها باللغة التي كتبت بها اصلا «اللغة الفرنسية» في العام 2004 للاديب الروائي سليم نسيب اللبناني المولد المقيم في فرنسا واشتغل لفترة طويلة في صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية وقد اصدر بالفرنسية ايضا رواية عن ام كلثوم بعنوان «احبك لصوتك». تحت العنوان الرئيسي لرواية سليم نسيب «العاشق الفلسطيني» يظهر العنوان الفرعي باللغة الانجليزية بخط اصغر: «العلاقة الغرامية بين غولدا مائير واحد الارستقراطيين الفلسطينيين». بما تساعد عبارة كهذه، بحكم شحنتها الاستثنائية والعالية، على زيادة مبيعات الكتاب، او على الاقل ترغم قراء الصحيفة اليومية، او زوار مكتبة، على التوقف امام العنوان. وهي بهذا المعنى تقترح على قارئ محتمل عقدا ضمنيا يعده بالاطلاع على اسرار كانت محجوبة، ويكنه من التلصص على غرف النوم الخاصة بشخصيات عامة، ويمنحه ـ وهذا هو الأهم ـ فرصة ذهبية ليرى عن كثب انتهاك «التابو» اي ما لا يجوز في الاحوال العادية الاقتراب منه، والكلام عنه. وما أدراك اذا كان «التابو» المقصود علاقة مستحيلة بين جسدين الاول ليهودية والثاني لفلسطيني، خاصة اذا كانت اليهودية احد ابرز الساسة الاسرائيليين، ورئيسة الوزراء الاسرائيلية خلال حرب يونيو 1967 واكثرهم تشددا تجاه الفلسطينيين، وصاحبة القول المشهور «لا يوجد شيء اسمه الشعب الفلسطيني».
التلصص والاطلاع على اسرار محجوية، وانتهاك «التابو» من صميم خصوصيات الفن الروائي، ومن مبررات ظهور الرواية في التاريخ الادبي. وغالبا ما تستعير صحف «التابلويد» وروايات وافلام الاثارة والمغامرات، والتسلية، استراتيجيات كهذه لتحرير عقد مماثل مع قارئ او مشاهد محتمل.

مهما يكن من زمر لاشك ان البحث في العمل الروائي عما هو ابعد من التلصص يحرر العقد من ورطة الصدق. فلا يهم، في التحليل الاخير، ما اذا كانت العلاقة بين غولدا مائير واحد الفلسطينيين قد نشأت في الواقع، او في خيال المؤلف.. المهم، اولا ان علاقة كهذه يمكن ان تحدث بالمعنى النظري على الاقل، وثانيا ان احتمالا كهذا يملك من طاقة المجاز ما يمكنه من تجاوز الاشخاص المعنيين، ويرفعه الى مجاز علاقة اكبر واكثر تعقيدا بين الفلسطينيين والاسرائيليين.
كان استخدام اجساد النساء باعتبارها حدا يفصل بين جماعات مختلفة، ونقطة لقاء محتمل، وان تكن محفوفة بالمخاطر احدى المجازات الادبية الكثيرة التي تدين بوجودها لصعود الظاهرة الكولونيالية في الازمنة الحديثة، ويكاد لا يخلو ادب من آداب الكون من ظلال مختلفة لهذا المجاز. وبقدر ما يعنينا الامر فإنه يتجلى في تمثيلات تقبل الحصر والتصنيف في الادبين العربي والاسرائيلي.
والسؤال الذي يكتسب اهمية خاصة في هذا المقام هو: هل تمكن نسيب من تمثيل اللقاء المستحيل، في المنطقة الحرام، بطريقة جديدة، أم اعاد انتاج الشائع منه؟ والواقع ان الاجابة المحتملة لهذا السؤال، هي ما سيحدد في نهاية الامر، ما اذا كان ثمة ما هو ابعد من فعل التلصص.
تبدأ العلاقة في فلسطين اواخر العشرينات على هامش حفل في بيت المندوب السامي البريطاني في القدس، عند لقاء البرت فرعون سليل احدى العائلات الارستقراطية الفلسطينية وصاحب مصرف في حيفا، بالشابة غولدا مائير الناشطة في حركة الاستيطان، والوكالة اليهودية.
تستمر العلاقة بشكل متقطع، وبعاطفة مشبوبة، حتى العام 1948م عندما وصل الصدام بين جماعتي العاشقين الى ذروة نهائية وحاسمة وضعت خاتمة لعلاقة مستحيلة من ناحية وفتحت فصلا جديدا من صراع الوجود بين الفلسطينيين والاسرائيليين من ناحية ثانية.
وما يلفت النظر في هذا الشأن ان ما جعل العلاقة ممكنة للوهلة الاولى، هو بالتحديد ما حكم عليها بالاستحالة في وقت لاحق. فاللقاء بين الجانبين يتحقق بفضل سوء فهم، واضطراب في الهوية.
تنظر غولدا في القاعة فترى شخصا يشبه الحبيب الذي فقدته قبل قدومها الى فلسطين، بينما يعتقد الفلسطيني ما ان يقع بصره على امرأة تبدو ضائعة في القاعة الكبيرة، بأنها اجنبية تنتمي الى سلطة الانتداب، او الى الجالية الاوروبية في المدينة.
اذا.. المنطقة الحرام الفاصلة بين هويتين تحتفي من خلال لعبة سوء الفهم، التي تشبه وضع اقنعة مؤقتة على وجوه اللاعبين، لتمكين شخصين من الوصول الى نقطة اللا عودة قبل انكشاف الحقيقة. ربما تبدو لعبة الاقنعة ذات جاذبية خاصة بالنسبة لشخص يكتب بالفرنسية، لكن احتمال العثور عليها في نص بالعربية او العبرية يبدو أمرا صعب المنال. وبقدر ما كتبه الفلسطينيون من نصوص قليلة، وما كتبه الاسرائيليون من نصوص تزيد عنها، لا وجود لقناع في الاصل، بل ان حضور «التابو» بكامل تجلياته ومنذ اللحظة الاولى، هو ما يحرض على الوصول الى المنطقة الحرام.
وفي الحالتين لا يمكن فهم ما يملكه «التابو» من غواية، وعدم حاجته الى أقنعة تبرره، خارج سياق وديناميات العلاقة المعقدة التي حكمت الجانبين، والتي هي أميل دائما الى رؤيتها كعلاقة بين قوة كولونيالية وسكان اصليين. وهي، بهذا المعني، تتماهى مع، وتشبه، الكثير من تجارب اللقاء في الارض الحرام بين سكان اصليين في افريقيا، وآسيا، وامريكا اللاتينية، وقوى كولونيالية غربية.
ومع ذلك، ثمة ما يبرر القول ان لعبة الاقنعة، التي تجعل اللقاء ممكنا، تنسجم مع طريقة عرض الاحداث التي تشكل خلفيته التاريخية والاجتماعية. ففي فلسطين العشرينات والثلاثينات، كما يراها نسيب تصادم حركتين هما صهيونية المهاجرين اليهود، الباحثين عن وطن في فلسطين، هرباً من الاضطهاد الاوروبي، وردة فعل السكان الاصليين تجاه محاولات تجريدهم من الارض، وتهديد وجودهم القومي في بلادهم.
ورغم ان في الرواية ما يتم عن معرفة واسعة بتاريخ الاستيطان اليهودي في فلسطين، الا ان طريقة الكاتب سليم نسيب في تصور حركة الاستيطان، ودوافعها الايديولوجية تبدو في احيان كثيرة وكأنها تتأخر عن حركة المؤرخين وعلماء الاجتماع الجدد في اسرائيل بخطوة واحدة على الاقل، فقد توقف التصوير البطولي للكيبوتس، والصابرا «اليهود سكان فلسطين»، وحياة المستوطنين الاوائل قبل عقدين على الاقل من صدور رواية العاشق الفلسطيني. وهي فترة كافية لتفادي تكرار افكار خرجت من التداول، بعدما ثبت عدم انسجامها مع الحقيقة التاريخية.
وكما خرجت افكار السردية البطولية لحركة الاستيطان من التداول، خرجت الى حد بعيد ايضاً، فكرة سوء الحظ الذي حكم على حركتين قوميتين بالاصطدام بدلاً من التفاهم. ويمكن، دائماً، الكلام عن فرص ضائعة، وعن سوء فهم، لكن تفسير الاحداث التاريخية، خاصة الصراع في فلسطين وعليها، بسوء الحظ يعتبر تبسيطاً مفرطاً للامور.
ورغم هذا التبسيط، واعادة انتاج افكار خرجت من التداول، كان بامكان التماس بين جسدين في المنطقة الحرام، فتح نافذة اضافية، وجديدة، للاطلال على العلاقة الفلسطينية- الاسرائيلية لكن لعبة الاقنعة، التي تبدو للوهلة الاولى مجرد تقنية سردية، اغلقتها. فالتابو لا يكسر بالصدفة، بل عن غواية مسبقة، يحد غيابها من امكانية استكشاف ما فيه، ومن التفكير في ما يحرض عليه.